إدانه الآخرين لفداسة البابا شنودة الثالث
قال السيد المسيح " لا تدينوا لكي لا تدانوا . لأنكم بالدينونة التي بها تدينون ، تدانون .." ( متي 7: 1) .
وقال القديس بولس الرسول " من أنت الذي تدين عبد غيرك ؟ هو لمولاه يثبت أو يسقط ..." ( رو 14: 4) . وكرر القديس يعقوب الرسول نفس السؤال تقريباً ، فقال " من أنت يامن تدين غيرك "( يع 4: 12 ) . وقال أيضاً لا يذم بعضكم بعضاً أيها الأخوة . الذي يذم أخاه ويدين أخاه ، يذم الناموس ويدين الناموس ..." ( يع 4: 11)
فإلي أي مدي ، وبأي تفسير ، نفهم معني إدانه الآخرين ؟
هل هي وصية نفهمها بمعني مطلق ، بحيث لا يمكن أن نذكر كلمه سوء عنة إنسان ، مهما كالنت الظروف ، ومهما كان الشخص الخاطئ ؟ وهل الإدانه خاطئة في جميع الحالات ؟ أم أن هناك حالات تجوز فيها الإدانه أو تجب ؟وأن كان كذلك ، فمتي تجوز الإدانه ؟ ولمن ؟
بل متي تكون الإداتنه واجبة ؟
ومتي نخطئ إن كنا ندين غيرنا ؟
هذا ما نود أن نجيب عنه الآن
هناك حالات كثيرة تجوز فيها الإدانه ولا تكون خطية ، نذكر منها :
تجوز الإدانه حينما تصدر من مسئول أو صاحب سلطان
هناك أشخاص أقامهم الله بسلطان علي غيرهم . من حقهم أن يدينوا من هم تحت سلطانهم ، ولا تنطبق عليهم الآيه التي تقول " لاتدينوا لكي لا تدانوا "..
وهؤلاء ليس من حقهم فقط أن يدينوا ، بل من واجبهم ...بحيث أنهم يخطئون أن لم يدينوا من هم تحت سلطانهم .
من أمثلة هؤلاء : الأب والأم . وقد ائتمن الله الآباء والأمهات علي تربية أولادهم . ومن حقهم أن يوبخوا أبناءهم علي أخطائهم . وأن يقولوا للإبن " إن تصرفك هذا خاطئ ، وينبغي أن تتركه ". وإن لم يتركه قد يأخذ منهم عقوبة .
لاشك إنها إدانه ، ولكنها ليست خطية إدانة .
لأنها صادرة من شخص صرح له الله أن يدين ، بل أمره بذلك ، كجزء من تربية لإبنه . بل إن الأب الذي يقصر في تربية إبنه ، ويهمل في تنشئته وتوجيهه ، ولا يدينه ويوبخه علي أخطائه ، هذا الأب يعاقبه الله ...
ومثال ذلك العقوبة التي أوقعها الله علي عالي الكاهن .
كان أولاده يخطئون ... وسمع عالي الكاهن بذلك ، وأدانهم ، ولكن ليس بحزم ! قال لهم : " لماذا تعلمون مثل هذه الأمور ؟ لأني أسمع بأموركم الخبيثة من جميع هذا الشعب . لا يابني ، لأنه ليس حسناً الخبر الذي اسمع .." "ولم يسمعوا لصوت أبيهم " (1صم 2: 22-25) . وغضب الرب لأن عالي الكاهن تراخي في إدانة أولاده ، فقال " هوذا أنا فاعل أمراً في أسرائيل ، كل من سمع به تطز أذناه . في ذلك اليوم أقيم علي عالي كل ما تكلمت به علي بيته ... وقد أخبرته بأني اقضي علي بيته إلي الأبد ، من أجل الشر الذي يعلم أن بنيه قد أوجبوا اللعنه علي أنفسهم ، ولم يردعهم "( 1صم3 :11-14)
إذن الإدانه هنا واجب ملزم ، من يقصر فيه يعرض نفسه للعقوبة .
ليس فقط أن يدين الأب أولاده أن أخطاوا . بل أكثر من هذا أن " يردعهم ". أي أن يمنعهم - بسلطان – من ارتكاب الخطأ ، ومن الأستمرار فيه ... وما أكثر الوصايا التي أعطاها الله للآباء والأمهات لتأديب أولادهم . ومعها وصايا أخري للأبناء أن يطيعوا آباءهم في الرب ، لأن هذا حق (أف 6: 1) .
وما نقوله عن الأب الجسدي ، نقوله أيضاً عن الأب الروحي ، وعن الراعي عموماً ...
ومن هنا أعطي الله للآباء الكهنة ، وللرعاه ، وللأنبياء ، واجباً هو انذار الخطاة وإدانتهم . فقال " يا ابن آدم ، قد جعلتك رقيباً ... فاسمع الكلمه من فمي ، وانذرهم من قبلي . إذا قلت للشرير موتاً تموت ، وما أنذرته أنت ، ولا تكلمت إنذاراً للشرير من طريقة الرديئة لإحيائه ، فهذا الشرير يموت بإثمه ، أما دمه فمن يدك اطلبه "( حز 3: 17 ، 18) .
إذن إنذار الخطاة وتوبيخهم وردعهم وإدانتهم وإدانة طريقهم للشرير ، ليست مجرد حق للآباء والرعاه ، بل كل ذلك واجب عليهم ، يدانون إن لم يقوموا به . ولكنهم يخلصون من الدينونه ، إن هم أدانوا هؤلاء الخطاة ، وانذروهم من جهه نتيجه شر أفعالهم . وهكذا يكمل الرب وصيته فيقول " وإن أنت أنذرت الشرير ، ولم يرجع عن شره ولا عن طريقه الرديئة ، فإنه يموت بإثمه . أما أنت فقد نجيت نفسك "( حز 3: 19) .
ونفس الكلام نقوله عن المدرس مع تلاميذه ، ورئيس العمال مع مرؤوسيه وأيضاً عن القاضي بالنسبه إلي المتهمين .
كل هؤلاء لهم الحق أن يدينوا من هم تحت سلطانهم ، في نطاق اختصاصاتهم لا يتعدونها ، وفي حدود الواجب المناط بهم ، وفي مجال عملهم ومسئوليتهم . وفي الالتزام بالحق والعدل فإن قال المدرس لتلميذه إنه مهمل في أداء واجباته الدراسية ، وإن قال رئيس العمل لأحد عماله إنه غير أمين في عمله . وإن قال القاضي إن هذا المتهم مذنب ، ولا يكون أحد من هؤلاء قد خالف وصية " لا تدينوا لكي لا تدانوا " .
وأن سمع قول الرسول " من أنت يا من تدين غيرك "( يع 4: 12 ) ، يجيب " أنا المسئول عنه وعن عمله ".
إنه يدين ، وبسلطان . وفي عمله إدانه ، ولكنها ليست خطية إدانه . لأن الإدانه هنا من حقه ، بل هي من واجبه . وإن قصر واحد من كل هذه الفئات في أدانة من هم تحت سلطانه ، يرتبك العمل ، ويفسد المجتمع ، وتسود اللامبالاة .
لذلك إن اجتمع كونسولتو أطباء لفحص مريض ، وتشاوروا
في تشخيص مرضه . فقال أحدهم إنه يشكو من كذا ، وقال أخر إنه مريض بكذا وقال ثالث إنه مصاب بكذا ... فهنا القصد التوصل إلي شفاء المريض ، وليس القصد هو إساءه سمعته أو التشنيع به ... ولعل مما يشبه هذا تماماً ما ورد في نسكيات باسيليوس ):
سئل القديس باسيليوس الكبير عن الأدانه ، فاقل : إذا كان المقامون علي الأخوة يبحثون حالة أخ في المجمع ، وتعرضوا لأخطائه وماذا يعمل لأجل تقويمه ، ولأجل سلامه المجمع من نتائج هذه الأخطاء ،فلا تكون هذه خطية إدانه ... بشرط أن يفحصوا أخطاءه " في خوف الله ".
وهذا الحق في الإدانه ، أعطاه الرب للكنيسة :
فكما أعطاها سلطاناً أن تحل ، أعطاها أيضاً سلطاناً أن تربط ( متي 18: 18) . وأعطاها أن تفصل في الخصومات . ومن لم يسمع لها فيما تحكم به ، يكون كالوثني والعشار ( متي 18: 17) . فإن قالت الكنيسة لشخص إنه مخطئ ، لا تكون قد وقعت في خطية إدانه ، بل تكون قد أدانته بحق وبسلطان . يوحنا المعمدان أدان الخطاه ووبخهم ( مت 3: 7) . وبولس وبخ كثيرين منهم " الغلاطيون الأغبياء "( غل 3: 1) . وأمر تلميذه تيموثاوس الأسقف ان يوبخ وينتهر ويعظ (2تي 4: 2) . وقال له أيضاً " الذين يخطئون ، وبخهم أمام الجميع لكي يكون عند الباقين خوف "( 1 تي 5: 20 ) . بولس الرسول أدان خاطئ كورنثوس ( 1كو 5: 5 ) ، ووبخ أهل كورنثوس علي أنهم لم يعزلوا الخبيث من بينهم ( 1 كو 5 :13 ) . وبطرس الرسول أدان حنانيا وسفيرا وحكم عليهما ، بعد أن وصفهما بالكذب ، وبالاتفاق علي تجربة روح الرب (أع 5: 3-9) .
ولعلك تقول " انا لست رسولاً ولا نبياً "... لك حق . إذن اعمل في حدود السلطان الذي وهب لك من الله ، إن كنت صاحب سلطان .
اعمل في حدود مسئوليتك ، مهما كانت ضيقة ... علي أن يكون ذلك بأسلوب روحي ، كما سنشرح فيما سيأتي ...
أحياناً تكون الإدانه شيئاً طبيعياً ، مجرد تمييز للخطأ أو الشر
فأنت مثلاً إن سمعت إنساناً يشتم ، لا تستطيع أن تمنع نفسك من أدراك أن هذه شتيمه . وبالمثل إن رأيت رجلاً في ثورة غضب وقد فقد أعصابة ، وهكذا إن رأيت إمرأه في ملابس متبرجة غير لائقة . وبالمثل إذا سمعت إنساناً يحلف بأقسام مغلظة ، او سمعت إنساناً يغني أغاني عالمية ، أو يقول فكاهات ردئية جداً من الناحية الأخلاقية ، هل استطيع أن أمنع نفسي من إدانه ما أسمعه ؟! هناك إذن إدانه تلقائية بحكم الضمير ...ينبغي أن نفهم الروحيات بطريقة سليمة بعيده عن الوسوسة
فعدم الإدانه ليس معناه أن أفقد الحكم الطبيعي علي الأمور . فقد وهب الله للإنسان ضميراً يميز به بين الخير والشر . وليس من صالح الإنسان أن يفقد التمييز
إنه نور طبيعي يستطيع به أن يحكم علي أعماله ، كما يحكم به علي أعمال غيره مع فارق سنذكره فيما بعد .. وإن فقد الإنسان هذا التمييز سوف تختل أمامه القيم والمبادئ ، ولا يدري ما يجب أن يكون ، وما لا يجب .. وهكذا قال السيد الرب مرتين في العظة علي الجبل :
" من ثمارهم تعرفونهم "( متي 7: 16، 20 ) .
وشرح ذلك فقال " هل يجتنون من الشوك عنباً ، أو من الحسك تيناً ؟! هكذا كل شجرة جيده تصنع ثماراً جيده تصنع ثماراً جيده . واما الشجرة الردية فتصنع أثماراً ردية . لا تقدر شجره جيده أن تصنع أثماراً ردية ولا شجرة ردية أن تصنع أثماراً جيده إذن من ثمارهم تعرفونهم "( متي 7: 16-20 ) . فهل إذا رأينا الشوك فعرفنا أنه شوك ، وأن رأينا الثمر الردئ فعرفنا أنه ثمر ردئ ، أنكون آنئذ واقعين في إدانه الاخرين ؟! كلا بلا شك ...
يقول القديس أوغسطينوس في تفسير هذه الآية ( متي 7:7) .
هناك شجرة تعطي ثماراً ردية ، وشجرة تعطي ثماراً جيده . ولا يمكن أبداً لإنسان أن يخدع نفسه ، ويقول عن الردئ إنه جيد ، ولا عن الجيد إنه ردئ فمما لاشك فيه أن بعض الأمور واضحة جداً ، لا نستطيع أن نخدع انفسنا فيها ...ولعله من أجل هذا التمييز قال القديس بولس الرسول :
خطايا بعض الناس واضحه تتقدم إلي القضاء (1تي 5: 24 )
هذه الخطاياة الواضحة لا ذنب لك إن أدركتها : من الطبيعي أنك سوف تشعر أن هناك خطأ يتقدم إلي القضاء . وفي نطاق هذا المستوي لا تكون قد أخطأت . إنما توجد ملاحظة لابد أن نقدرها وهي :
هناك فرق بين إدانه العمل وغدانه الشخص : فإن رأيت شخصاً سكراناً يتطوح في الطريق ، لا تستطيع أن تمنع نفسك من أن هذا خطأ . العمل خطأ ، او الحادث أمامك خطأ . ولكن الشخص نفسه لا تستطيع أن تدينه ، إلا إذا عرفت ظروفه .. ربما هناك من خدعة واسكره . ربما شرب عن طريق الخطأ . وربما العكس . من يدري ؟؟!
إذن التمييز شئ والحكم علي الشخص شئ آخر .
كوني أسمع الشتيمة فأعرف أنها شتيمه هذا تمييز .أما ان أسمعها ، فأقيم في ذهني محكمة لصاحبها ، وأقول إنه كذا و كذا ، ويستحق ... ويستحق .... فهنا يصبح الأمر إدانة ، لأنه انتقل من تمييز العمل و الحكم التلقائي للضمير إلي الحكم علي الشخص نفسه . وإذا اخذت قصه هذا الإنسان موضوعاً لحكاياتي وأحاديثي ع الناس . لا أقول حينئذ إنه مجرد تمييز طبيعي ، او حكم تلقائي من الضمير . بل هنا اكون قد تطورت من إدانه الشخص إلي التشهير به . ولا شك أن كلاً منهما خطيئة
ومن جهة الخطايا الواضحة ،توجد أمور تبدو واضحه ، وهي علي عكس ذلك ...
فإن رأيت شخصاً في الصوم يشرب كوباً من اللبن ، وقلت : هذا الإنسان محب للأكل وكاسر للصوم ولا شك أن هذه خطية واضحه تقدمه إلي القضاء !! ( 1 تي 5 : 4 ) ... فربما تكون مخطئاً في حكمك . وقد يكون هذا الشخص مريضاً بقرحة في المعدة أو مرض آخر ، ويحتاج إلي اللبن كدواء . وقد وافق علي أوامر الأطباء متغضباً من اجل صحته ... ولا يمكن أن يحكم عليه بأنه محب للطعام وكاسر للصوم
وقد علق القديس علي موضوع الكل هذا فقال :
أن كل أنواع الطعام البشري يمكن أن تؤخذ بنيه صالحة .. وبدون شهوة تمييز . وتذكر في ذلك قول القديس بولس الرسول
لا يزدر من يأكل بمن لا يأكل . ولايدن من لا يأكل من يأكل ، لأن الله قبله "( رو 14 : 3 ) .
ويكمل القديس بولس الرسول كلامه فيقول " من أنت الذي تدين عبد غيرك ؟! هو لمولاه يثبت أو يسقط . ولكنه سيثبت ، لأن الله قادر أن يثبته "( رو 14 : 4 ).أمثال هذه الأمور ليس من حق إنسان أن يحكم فيها . وهي ليست من الخطايا الواضحه التي تتقدم إلي القضاء . الخطايا الواضحة هي مثل الزني و الشرقة والاعتداء وأنواع النجاسات .
أما الأمور التي تتوقف علي النية والقصد ، فليس من حقنا أن نحكم عليها . الله وحده هو العارف بالنيات .
الله وحده هو فاحص القلوب ، وهو الذي يعرف القصد و الدافع . ويستطيع أن يحكم أن كان هذا العمل صالحاً أم طالحاً ، مما لا تتوفر لنا معرفته .
نقطة أخري نضيفها إلي عنصر التمييز وهي :
وصايا وآيات تحمل الإدانة :
فهناك وصيه في الكتاب تقول لك " لا تستصحب غضوباً ، ومع رجل ساخط لا تجئ "( أم 22 : 24 ) . فكيف يمكن ان تنفذ الوصية وتبعد عن صحبة الغضوبين ، إلا لم أدركت أن هذا الإنسان بالذات هو رجل غضوب ؟! فهل هذه إدانه ؟ كلا ، بل هي لون من التمييز ، تماماً كما تميز حفره حتي لا تقع فيها . ومثله قول الكتاب " المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة " ( 1 كو 15 : 23 ) . فكيف تبعد عن هذه المعاشرات ، إلا لو عرفت تماماً إنها ردية ؟ فهل هذه المعرفة إدانه ؟ كلا ، طبعاً ... وبنفس المنطق نتكلم عن الوصية التي يحملها المزمور الأول " طوبي للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار ، وفي طريق الخطاة لم يقف ، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس "
كيف يبعد عن هؤلاء الأشرار والخطاة والمستهزئين ، أن لم يعرف انهم كذلك ؟ فهل هذه المعرفه خطية إدانه ؟ كلا ، بلا شك . مادام الأمر قد اقتصر علي المعرفة و البعد . وحتي لو تدرج الأمر إلي نصح أصدقائك ومعارفك وأقربائك وتلاميذك في البعد عن هؤلاء لا تكون أيضاًً قد أخطأت .
أتتركهم يسقطون في حفرة وتقول " لا أريد أن أدين الحفرة "؟!
هوذا الرسول يقول " نوصيكم أيها الأخوة باسم ربنا يسوع المسيح أن تتجنبوا كل أخ يسلك بلا ترتيب ، وليس حسب التعليم الذي أخذه منا "(2 تس 3: 6 ) . فكيف تتجنب مثل هذا الأخ ، إلا لو عرفت تماماً أنه " يسلك بلا ترتيب " . فهل هذه المعرفة خطية إدانه ؟! كلا ، لأن خطايا بعض الناس واضحه
وبالمثل الوصايا الخاصة بالبعد عن المعثرات :
من المفروض أن يبعد عن العثرات كل إنسان روحي . ولكي يبعد عنها ، لابد أن يعرف أنها عثرات . وليست في هذه المغرفة خطية إدانه . بل أن السيد المسيح يقول " إن كانت عينك اليمني تعثرك ، فاقلعها والقها عنك ..." ( متي 5: 29 ). إن يوسف الصديق قد تعرض لإحدى هذه العثرات ، فقال
كيف أصنع هذا الشر العظيم واخطئ إلي الله ؟! ( تك 39: 9 )
وهنا نري أن يوسف قد أدان هذا العمل ، ووصفه بأنه شر عظيم وأنه خطأ نحو الله . ومع ذلك لم يدن المرأة الثانية ، ولم يصفها بأية عبارة جارحة . إذن إدانه العمل من حقنا . وهو نوع من التمييز الطبيعي لا خطأ فيه ، ولا داعي للتعرض للأشخاص . والوصايا الخاصة بالبعد عن العثرات مع إدانتها ، ليست هي خاصة بالسلوكيات فقط ، إنما أيضاً هناك العثرات الخاصة بالإيمان والتعليم و العقيده وهذا يقودنا إلي نقطة هامة وهي .
يقول القديس يوحنا الرسول ، وهو من أشهر الرسل بالمحبة :" إن كان أحد يأتيكم ولا يجئ بهذا التعليم ، فلا تقلبوه في البيت ولا تقولوا له سلام . لأن من يسلم عليه يشترك في أعماله الشريرة "(2يو10 ، 11) . فهل الذي يرفض المبتدعين ولا يقبلهم ولا يسلم عليهم ، يكون قد وقع في خطية إدانة ؟ محال أن يكون هذا . بل أنه يقع خطية إن كان يسلم عليهم ....والسيد المسيح يقول " لا تعطوا القدس للكلاب ، ولا تلقوا درركم قدام الخنازير ، لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم " ( متي 7: 6 ) . فكيف نفعل هكذا ، إن لم نعرف أنهم كذلك . وهذه المعرفه ليست خطية ، لأنه بدونها لا يتم تنفيذ الوصية وبالمثل أيضاً يقول الرب :
" احترزوا من الأنبياء الكذبة ، الذين يأتونكم بثياب الحملان ، ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة "( متي 7: 15 ) .
فالاحتراس من الكذبة – وإن كان يحمل إدانه لهم ولكذبهم – إلا أنه ليس خطية إدانه ، لان الإنسان الروحي ينبغي أن يكون حريصاً ، مميزاً للأرواح حسب وصية الرسول (1 يو 4: 1 ) . فالاحتراس من الأشرار ليس خطية . ومعرفة أنهم يأتون بثياب الحملان وهم ذئاب خاطفة ، ليس فيه خطأ ، بل فيه حكمة .
ليست الروحيات أن تسير مغمض العينين ، حتي لا تبصر ولا تدرك حيل الذئاب الخاطفة ؟!
فالكتاب يقول " الحكيم عيناه في رأسه ، والجاهل يسلك في الظلام "( جا 2 : 14 ). فهل السلوك في الظلام فضيلة ؟ كلا . نحن لا نريدك أن تلعن الظلام إنما يكفي أن تميزه ، وتبعد عنه ، وتسلك في النور . وقد وضح السيد المسيح أن التمييز بين النور و الظلمه أمر سهل ، فقال " من ثمارهم تعرفونهم "( متي 7: 16 ) .
نقطة أخري نقولها في" الإدانه غير المخطئة " وهي :
يقول الرسول " أن ضل أحد بينكم عن الحق ، فرده آخر ، فليعلم أ، من رد خاطئاً عن ضلال طريقة ، يخلص نفساً من الموت ، ويستر كثرة من الخطايا "( يع 5 : 19 ، 20 ) . فهل معرفتك أن أحد قد ضل عن الحق ، هي إدانه له ؟ كلا طبعاً ، مادامت تريد رده عن ضلاله طريقه ، ولست تقصد التشهير به ...
ونحن لا نهدي الخطاة ، إلا إذا عرفنا أنهم خطاه .
تماماً مثلما يعرف الطبيب نوع المريض ، لكي يصف طريقة علاجه . هكذا إذا درسنا الأخطاء التي يتقاسي منها فرد أو مجموعة ، أو حتي كنيسة بأسرها ، لا نكون قد وقعنا في خطية إدانه ، مادام الهدف هو الإصلاح وليس الإساءة إلي سمعة الغير ...
والآيات الخاصة بالنصح وهداية الآخرين كثيرة جداًًًً ... والنصح و الهداية قد يحملان التوبيخ أحياناً . ولا يحمل هذا التوبيخ خطية إدانة . وفي هذا يقول الكتاب :
" لا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة ، بل بالحري وبخوها " ( أف 5: 11 ) . فليست معرفتنا أنها أعمال ظلمه خطية إدانه . بل ان تبكيتنا لهذه الأعمال هو فضيلة لأنه تنفيذ للوصية .
بل ان تبكيتنا لهذه الأعمال هو فضيلة ، لأنه تنفيذ للوصية . علي أننا نرجوا أن نرجع إلي هذه النقطة فيما بعد ، لنعرف الكيفية السليمة لتنفيذ هذه الوصية
وتدخل في مجال هذا التبكيت ، ما يلزم لأعمال الرعاية .
حسبما قال القديس بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس الأسقف " وبخ ، انتهر ، عظ ، بكل أناه وتعليم "( 2 تي 4: 2 ) .
وإن كانت الإدانة في أسلوب النصح و التوبيخ ، ينبغي أن يعرف الإنسان كيف تكون :
ومثال ذلك ابيجايل التي وبخت داود النبي ، ومنعته من اتيان الدماء والانتقام لنفسه ، باسلوب كله حكمة ، بدأته بالخضوع و بالمديح ، ثم مسكت المشكلة بطريقة غير جارحة ، لم تخدش بها شعور داود . بل صارحته ولكن في أدب وفي تواضع ... ( 1 صم 25 ) . في كل نصيحتها له ، كانت تقول " ياسيدي " وتقول عن نفسها " أمتك " " جاريتك " ... بدأت لقاءها معه بأن قدمت له ما كان يطلبه من الأطعمة، وسجدت له وأعتزرت عن خطأ زوجها ،وقالت " علي انا يا سيدي هذا الذنب ، ودع أمتك تتكلم في أذنيك ، واسمع كلام أمتك ". والعطايا التي قدمتها له لم تجرحه بها ، بل قالت " والآن هذه البركة التي أتت بها جاريتك إلي سيدي ، فلتعط للغلمان السائرين وراء سيدي ، واصفح عن ذنب أمتك "
وبعد كل هذا المديح واسلوب الإتضاع مست أبيجايل خطأ داود مقدمه له بمديح آخر ، فقالت :
" سيدي يحارب حروب الرب ، ولم يوجد فيك شر كل أيامك " " لتكن نفس سيدي محزومة في حزمة الحياة مع الرب إلهك .." . وهنا دخلت في توبيخه علي نقطة الضعف فقالت " ويكون عندما يصنع الرب لسيدي حسب كل ما تكلم به من الخير من أجلك ، ويقيمك رئيساً علي اسرائيل ، ، أنه لا تكون لك هذه مصدمه ومعثرة قلب لسيدي ، أنك قد سفكت دماً عفواً ، أو أن سيدي قد انتقم لنفسه ". نبهته إلي أنه مقدم علي الأنتقام لنفسه ، وعلي سفك دم بلا سبب يستدعي ذلك ، ونصحته بالابتعاد عن هذا ، حتي لايصبح هذا الأمر معثرة قلب له فيما بعد ....
وهذا النصح المؤدب ، و التوبيخ الضمني ، قبله منها داود وشكرها عليه ...
وقال لها " ... مبارك عقلك ، ومباركة أنت ، لأنك منعتني اليوم عن اتيان الدماء وانتقام يدي لنفسي "( 1 صم 25 : 32 ) . وتقبل منها عطيتها ، وصرفها بسلام ، ورفع وجهها ولم يقم بايذاء زوجها المخطي إليه ، مستمعاً لنصيحتها . حقاً ما أجمل النصح ، إن كان بلياقه وأدب . وهنا يسرنا أن نضع قواعد للنصح وللتبكيت :
1- قد يكون من حقك أو من واجبك أن تنصح أو توبخ . ولكن ليكن هذا النصح بأدب وباتضاع وبمحبة . أن التوبيخ بروح الكبرياء و التعالي أو بأسلوب الاحتقار والاستصغار ، ولا يمكن أن يكون مقبولاً . أما إذا نصحت إنساناً أو وبخته وأنت تقول له :
" أنت تعرف يا( فلان ) مقدار محبتي لك ، ومقدار حرصي علي سمعتك لذلك انا غير مستريح اطلاقاً لتصرفك ( الفلاني ) . وأشعر أنه سيضرك ويسئ إليك ، وربما يتخذه أعداؤك فرصه ليقولوا عنك إنك .. وإنك .. لذلك ابعد عن هذا الأمر وحاول أن تصحح ما فعلته بكذا وكذا ... ". هذا الكلام مقبول . بعكس إنسان آخر يقابل شخصاً فيقول له " كيف تفعل كذا ؟ كيف سمح لك ضميرك ؟ هل هذه تصرفات إنسان عاقل ؟! هل هذه تصرفات إنسان يحترم نفسه ؟ ! إنك كذا و كذا وكذا " ويصب عليه سيلاً من الألفاظ الجارحه تشعره أنه أمام عدو ...!
لذلك إن كلمت إنساناً من أجل خلاص نفسه ، فغضب ولم يقبل منك راجع نفسك : ربما نصيحتك له كانت خاليه من المحبة أو من الأتضاع ومن الجائز أن نفس النصيحة يقدمها له خادم آخر ، ولكن بأسلوب مقبول يستريح له ويشكره عليه . لذلك حسناً قال الكتاب " رايح النفوس حكيم " ( أم 11: 30 ) . لذلك إن قلنا إنه من أبواب الإدانه غير الخاطئة : النصح و الهداية ... إنما نقصد النصح الحكيم ، المملوء حباً واتضاعاً ... ولا نقصد كل نصح مهما كان أسلوبة
فحسب نوعية الأسلوب يصير النصح خطأ أو صواباًً . وحسب نوعية الأسلوب ، يدخل النصح والتوبيخ في نطاق الإدانه غير الخاطئة . إنك تستطيع أن تدرك تماماً أن كان الذي يوبخك هو مشفق عليك ، أم هو يحترقك ويزدريك . روحه في الحديث ، ولهجته ، وألفاظه ومشاعره ، هي التي تترك في نفسك أثراً . ربما أكثر من موضوعيه التوبيخ ...
2- كذلك ينبغي أن يكون التبكيت بحق ، وليس ظلماً :
ولعلنا نذكر مثلاً للتبكيت الظالم ، موقف عالي الكاهن من حنة زوجة القانه . كانت عاقراً لا تنجب . وكان لضرتها فننة أولاد ، فكانت تلك تغيظها . وذهبت حنة إلي هيكل الرب , وسكبت نفسها أمامه . كانت تصلي وهي مرة النفس ، وقد بكت بكاء ، ونذرات نذراً أن إعطاها الرب نسلاً أن تقدمه نذيراً للرب يخدمه كل أيام حياته . كانت تكلم الرب في قلبها ، وصوتها لم يسمع ، وشفتاها فقط تتحركان ، حتي أن عالي الكاهن ظنها سكري ، ووجد من واجبه أن يوبخها !! فقال لها " حتي متي تسكرين ؟ انزعي خمرك عنك "( 1 صم 1: 9: 14 ) .
إنه كاهن ، وله سلطان ، وهو إنسان مسئول ، ومن حقه أن يوبخ وان يدين . ولكنه في هذا الموقف كان مخطئاً .
لم يكن يوبخ عن حق . بل كان ظالماً في إدانته ، ظالماً في حكمه عليها قاسياً وجارحاً في أسلوبه . ومع أن حنه أجابته في أدب شديد يليق باحترام كهنوته . ولكنه مع ذلك كان مخطئاً . ومع أنه دعا لها بالخير إلا أنه لم يعتذر لها عن سابق كلامه ...
لذلك يجب ان يسبق التوبيخ الفحص و التدقيق
ولا يجوز أن يوزع إنسان توبيخاته عفواً بدون أن يتأكد من صحه الخطأ ...! إنما أن وثق تماماً أن ما يزمع أن يبكت عليه هو من " أعمال الظلمة غير المثمرة " حينئذ تنطبق وصية " بل بالحري بكتوها "
3- كذلك لا يجوز التبكيت لنفس مرة معذبة .
لقد وقع في هذه الخطيئة أصحاب أيوب الثلاثة ، وجرحوه أكثر من مرة ، وهو مر النفس ، حتي أثارروه باتهاماتهم وتوبيخاتهم – وكانت ظالماً – فقال لهم أيوب " حتي متي تعذبون نفسي وتسحقوني بالكلام ؟ هذه عشر مرات أخزيتموني . لم تخجلوا أن تحكروني " " تراءفوا تراءفوا أنتم علي يا أصحابي ، لأن يد القدير قد مستني "( أي 19 : 2،3،21 ) .. وقال لهم عبارته المؤثرة " أنا أيضاً استطيع أن أتكلم مثلكم ، لو كانت أنفسكم مكان نفسي . وأن أسرد عليكم أقوالاً "( أي 16: 4 ) .
الإنسان المر النفس يحتاج إلي كلمه تعزية ، وليس إلي كلمه توبيخ ونصائح وإدانه !
فإن وجدت إنساناً مر النفس ، مهما كان مخطئاً ، لا تسمح لنفسك أن توبخه ، لئلا يبدو توبيخك لوناً من الشماته . قل له كلمة طيبة ، كلمة تعزية . فالتوبيخ ليس الآن وقته ، وهو حالياً لا يحتمله . يكفيه ما هو فيه . واسمع قول الحكيم " لكل شئ زمان ، ولكل أمر تحت السماوات وقت " ( جا 3: 1) . وهنا نقول الملاحظة التالية :
4- النصح و التوبيخ لا يصلحان إلا في وقتها المناسب :
وهنا تخطر علي بال قصة طريفه وهي : قيل أن صبياً نزل إلي البحر يستحم وكان المكان خطراً فيه دوامات جذبت الطفل ، فكاد يغرق وصاح يطلب النجدة فمر عليه رجل ورآه في هذه الحال . فقال له " ياولد .. كيف أن تستحم في البحر ، وأنت لا تتقن السباحه ؟ وكيف بلغ بك الجهل أن تستحم في هذه المنطقة الخطر ؟ وكيف ...؟ فقال له الصبي " انقذني يا سيدي الآن . ثم وبخني بعد ذلك ..." حقاً تمر أوقات علي الخطاة ، يحتاجون فيها إلي من ينقذهم ، وليس إلي من يوبخهم ...
إن للتوبيخ وقتاً ، ربما لا يكون الأول في الترتيب . قد تبدأ أولاً بالحب وبالمعونه . وبكل عوالم الانقاذ ، وتؤجل التوبيخ إلي حين آخر . وقد يكون الخاطئ في حالة من الندم الشديد ، وقد بكت نفسه بتبكيت مر شديد ، لا يحتاج فيه إلي مزيد . تأمل الآب الحنون في قصة الابن الضال . إنه لم يبكت هذا الابن بعبارة واحدة بل رآه من بعيد فتحنن وركض ووقع علي عنقه وقبله ، وألبسه الحلة الأولى ، وذبح له العجل المسمن ... ( لو 15 : 17 – 23 ) ... كان ذلك وقت فرح . ولم يكن وقت تبكيت ...
إن النصح و التبكيت قد يدخلان في نطاق الإدانه غير الخاطئة ، ولكن بشروط ...
هي ما ذكرناه .. وبغير ذلك قد يتغير الأمر ، ويتحول التبكيت إلي جرح وإهانة وإدانه ، وربما يأتي بنتائج عكسية . نقطة أخري نقولها في شروط النصح و التبكيت وهي :
5- أحياناً يصلح تبكيت الخاطئ ، إن كان ذلك " فيما بينك وبينه وحدكما "( متي 18 : 15 ) .
حيث لا يتعرض للخجل أمام الناس ، وحيث لا تنكشف أخطاؤه أمام الاخرين . وحيث يستطيع أن يعترف بالخطأ . ويعتذر عنه ، ويقبل التبكيت عليه ، إذ لا يراه أحد ، فلا يراق ماء وجهه امام الآخرين ، ولا ينفضح امام الناس . هذا هو النصح فيما بينك وبينه ، والتبكيت المستور ، و المقبول . أما إن قمت بتبكيته امام الناس ، فقد يضطر ان ينكر ، أو يدافع عن نفسه ، أو يكابر ! حتي لو فعلت ذلك بمحبة واتضاع . ولكن انكشافه امام الآخرين قد يضطره إن يحمي سمعته بالدفاع الباطل ، وربما بالكذب ... وتكون أنت قد أعثرته ودفعته كل ذلك لأنك فضحته علناً ، وخدشت حياءه ، وجرحت كرامته ...
وقد لا يخجل ، بل يتبجح ويقول " نعم قد فعلت " .
ليس في انسحاق قلب ، وإنما في تحد وفي مقاومه . وفي اصرار علي ان لا يبدو ضعيفاً أما الذين قال عنهم الرسل " وبخهم أمام الجميع لكي يكون عند الباقين خوف " ( 1 تي 5: 20 ) فهؤلاء هم الذين خطيتهم معروفه للكل ، وأصبح الأمر يتعلق بسلامه الكنيسة كلها وحفظ قيمها وروحياتها ... وصار الهدف هو
"لكي يكون عن الباقين خوف "... مثال ذلك أناس وقفوا في وسط الكنيسة يحدثون ضوضاء وهياجاً ويتكلمون بما لا يليق بغير مبالاة ، فهولاء يحتاجون إلي توبيخ عام ، وليس فيما بينك وبينهم .
قد يكون عمل الإنسان أنه ناقد في أية صحيفة من الصحف : ناقد روائي ، أو ناقد أدبي ، أو ناقد مسرحي ، أو ناقد رياضي...
فهل يترك عمله كناقد علي اعتبار أنه يوقعه في الإدانه ؟ وما الفرق بين النقد والإدانة ؟
كلا ، لا يترك عمله . إنما يسلك فيه بطريقة سليمة وبأسلوب روحي ، مبنية علي أسس عملية . ولا يكون أسلوبة هو الهدم و التجريح . وهناك فروق بين النقد والإدانة .
الفرق الأساسي بين النقد والإدانة ، هو ان النقد يلتزم الموضوعية . أما الإدانة فكثيراً ما تمس النواحي الشخصية . النقد يتناول الموضوع ويحلله ، ويقوم بعملية تقييم عادلة ، يذكر ما فيه من المحاسن ومن العيوب علي السواء . وقد يذكر أسباب النجاح وأسباب الفشل في كل النواحي . وأن كانت هناك مساوئ ، يقترح الوضع السليم الذي كان يجب اتباعه .
إذن النقد هو عملية تقييم . وكثيراً ما يلزم التقييم في كل حياتنا الاجتماعية و الكنسية ، بل وفي كل أنشطتنا .
والهدف من هذا التقييم هو الوصول إلي الأفضل ، باجتناب العيوب ، وتحسين مستوي النجاح ورفع درجته . ولذلك كثيراً ما يجلس الإنسان لتقييم أعماله ويعرف هذا باسم ( النقد الذاتي ) ، ويعرف في الروحيات باسم ( محاسبة النفس ). و النقد علم ، له قواعده وأصوله وأسلوبة . بل له حدوده أيضاً التي لا يتعداها ، والتي إن خرج عنها لا يكون نقداً ، أو لا يكون نقداً سليماً .
والنقد الذي لا يذكر سوي المساوئ ، هو لون من الهجوم . ولا يكون صاحبه منصفاً .
لذلك هناك أنواع ودرجات من النقد ، منها النقد الهادئ الرزين ذو الأسلوب العف . وهو النقد السليم المقبول . ومنها النقد اللاذع ، والنقد الجارح . وكل ناقد يختلف في أسلوبه عن الآخر ، ويختلف في اختيار الألفاظ التي يستخدمها ... والناقد المنصف يتخير الألفاظ كما بميزان دقيق جداً . فإن كنت ناقداً ، انظر من أي نوع أنت ...؟
كن موضوعياً ومنصفاً ، ولا تكن قاسياً في نقدك .
ربما ناقد أدبي أو علمي ينقد كتاباً ، فيكون نقده تكلمه لازمه لهذا الكتاب تحتاج إليها معلوماته . وربما ناقد ينقد كتاباً ، فيكون نقده مديحاً خالصاً ، أن كان الكتاب يستحق ذلك .
كذلك النقد يحتاج إلي دراسة واعيه .
يحتاج إلي معرفة واسعة جداً بالموضوع الذي ينقذه ، كما يحتاج إلي معرفة بفن النقد وأصوله ليس كل إنسان يرقي إلي مرتبه الناقد ، أو يدعي لنفسه هذه الصفه . وليس كل ناقد يحترمه المجتمع ويثق به كناقد ...
و الناقد المنصف يستفيد من نقده للبنيان ، مقدماً فيه علماً وأدباً وفناً ...
يقول الرب في سفر اشعياء النبي " ويل للقائلين للشر خيراً ، وللخير شراً الجاعلين الظلام نوراً والنور ظلاماً . الجاعلين المر حلواً ، والحلو مراً " ( أش 5: 20 )
هل إذا طلبت في مجال الشهادة في محكمة : اتراك تستطيع أن تقع في شهادة زور لكي تبرئ مذنباً ؟!
وهل إذا قلت الحق ، اتراك تقع في خطية إدانة ؟! حاشا . بل أنك بتببرئه المذنب تقع في خطية كذب . كذلك في معاملاتك الخاصة . إن لم تستطع أن تقول الحق ، فعلي الأقل اصمت ، فهذا أفضل من تبرئة المذنب ، تبرئة تخدع بها السامعين . لعل من ابراز أنواع الإدانه غير الخاطئة :
إنها فضيلة ، توصل إلي الاتضاع ، وإلي التوبة و النقاوة ، وإلي امتصاص الرغبة في الإدانه بطريقة سليمة . وقد قال القديس مكاريوس الكبير " احكم يا أخي علي نفسك قبل أن يحكموا عليك ".
قال القديس الأنبا أنطونيوس " إن دنا انفسنا ، رضي الديان عنا " . كذلك إن الذي يدين نفسه ، ويوبخ ذاتها لكي يقومها ، هذا لا يجد دافعاً داخلياً لإدانه غيرة ، لأنه يشعر أنه مخطئ مثل ذاك وربما أكثر .
وإدانه النفس ، تحمي الإنسان من إدانته لغيره .
قال القديس الأنبا موسي عن انشغال الإنسان بخطاياه ، إنشغالاً لايسمح له أن يتفرغ للحديث عن خطايا غيره
من من الناس يكون عنده ميت فلا يبكي عليه ، وغنما يتركه ليبكي علي ميت عند جيرانه ؟!
نحب في موضوع الإدانه أن نورد ملاحظة اخيرة وهي :
يحدث عند البعض أحياناً ، أنهم يبرئون كل أحد - مهما كان مخطئاً – حتي لا يقعوا في خطية الإدانة . وأمثال هؤلاء ، عليهم ان يسمعوا قول الكتاب :
" مبرئ المذنب ، ومذنب البريء ، كلاهما مكرهة الرب " ( أم 17 : 15 ) . ذلك لأن كليهما بعيد عن الحق ، ويتكلم بالباطل . ونلاحظ هنا انه وضع عبارة ( مبرئ المذنب ) أولاً ,
فلا تظن انك تكون ذا قلب شفوق إن كنت تبرئ المذنب . فالمذنب هو ذنب . والخطأ هو خطأ . قد تدافع عن المذنب من حيث أنه فعل الذنب عن جهل ، أو عن ضعف ، أو عن خوف ، أو بسبب ظروف ضاغطة فتحفف بهذا من ذنبه . ولكن لا تستطيع ان تبرئه ، أو تدعي أنه لم يخطي ...!
بل يحدث أحياناً أن مبرئ المذنب يثير السامعين .
ويجعلهم يدينونه هو في دفاعه عن الباطل ، ويدينون المذنب بأكثر شده حتي يوازنوا مع ما قيل في تبرئة بعكس المقصود منها .
كما أن تبرئة المذنب تساعد علي الاستهتار .
سواء من جهة هذا المذنب ، الذي لا يشعر بتأنيب الضمير نسبب محاولة تبرئته ، فيستمر في أخطائة أو من جهة استهتار من يقلدونه ، شاعرين أنهم سيجدون من يعمل علي تبرئتهم . وقد سئل القديس باسيليوس الكبير هذا السؤال .
ما هي دينونة الذين يحامون عن الخطي ويدافعون عنه ؟
قال أظن انها دينونة ثقيلة ، أكثر من دينونه الذي يعثر غيره ، كما وردت في الإنجيل ( متي 5: 29، 30 ).
لأن الذي يدافع عن المخطئ ، يمنع المخطئ من أن يتوب .
ويجعله بهذا يستمر في خطيته ، ويعلم غيره شره . وهذا حق ، لأنه إن كان هذا الذي يدافع يقول : ماذا فعل(فلان ) ؟ لا يوجد خطأ في كل ما فعله ... فهو بهذا الكلام يشجع غيره أن يفعل مثله مادام الفعل غير مدان . هنا ويواجهنا سؤال لابد من الإجابة عليه ، وهو :
لماذا إذن ينصحنا القديسون أن ندافع عن المخطئين ؟
للإجابة علي هذا السؤال ينبغي أن نعرف تماماً ما هي نوعيه الدفاع ؟ ليس معني الدفاع أن نقلب الموازين الروحية ، ونقول عن الخطأ إنه صواب . كلا بلا شك . فقد قال الكتاب : ويل لمن يقول عن المر أنه حلو ( أش 5: 20 )
وإنما الدفاع هنا ينصب علي الظروف المحيطة ، وليس علي كنه العمل ذاته .
كأن ندافع بسبب أن الحرب كانت ثقيلة عليهم ، مع ضعف الطبيعه البشرية . كما نقول في أوشية الراقدين " إذ لبسوا جسداً ، وسكنوا في هذا العالم " وإنه " ليس أحد بلا خطية ، وإن كانت حياته يوماً واحداً علي الأرض " أو نعتذر عنهم بمكر الشيطان المحارب وخديعته وكثرة حيلة .
أو ندافع بأنهم فعلوا ذلك جهلاً ...
كما قال السيد المسيح عن صالبيه " لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون "( لو 23 : 34 ) . وقال القديس بولس الرسول " لأنهم لو عرفوا ، لما صلبوا رب المجد ( 1 كو 2 : 8 ) .
أو نقول إنه كان في حالة إثارة ، بحيث لم يستطيع أن يملك نفسه ، أو كان واقعاً تحت إغراء أو ضغوط أو عثرة ...ولكن لا يمكننا أن ننفي الخطأ ، أو ندعي أنه ليس خطأ . بل يتحدث فقط عن الظروف المحيطة . تماماً كالمحامي الذي لا ينفي التهمة ، أو الركن المادي منها ، ويتحدث فقط عن الركن الأدبي أو الحالة النفسية أو العقلية للمتهم . ولا يكون القصد سوي التخفيف من وقع الخطأ بدافع الرحمة ، وليس إنكار وجود الخطأ ، كأن يقول إنسان مثلاً " كلنا تحت الزلل " أو " كلنا معرضون للخطأ " . أو كما دافع بعضهم عن خطأ نسب إلي شخص كبير ة، فقال : هذه هي الطبيعة البشرية . و الكتاب يحكي عن نبي عظيم جداً مثل إيليا فيقول :
" إيليا كان إنساناً تحت الآلام مثلنا " ( يع 5: 17) .
مع أنه صلي صلاة أن لا تمطر السماء ثلاث سنين وسته أشهر فلم تمطر ، ثم صلي بعدها فأعطت السماء مطراً ( يع 5: 17 ، 18) .
ويقع في محاولة تبرئة المذنب من يتملق الكبار !
محاولاً أن يبرئ أخطاءهم مهما كانت جسيمة ، باسلوب بعيد عن الحق . وبسبب هذا التملق ، يسقط كثير من الكبار في أخطاء ويستمرون فيها ، ولا تبكتهم ضمائرهم ، ببل قد يفتخرون بما وقعوا فيه من أخطاء !! ويدفعهم من يبرئهم إلي العزة بالأثم وإلي سياسات خاطئة ، ويشترك معهم في أعمالهم الشريرة .
إن كان الذين يصمتون علي الخطأ ، ولا يخرجون الخبيث من وسطهم ، يدانون كما دان بولس الرسول أهل كورنثوس . فماذا نقول إذن عن الذين يحامون عن الخطأ ويدافعون عنه ويبررونه ؟ لا شك أن هؤلاء دينونتهم أعظم .
1- أن تصدر من شخص مسئول :
وقد شرحنا هذا الأمر من قبل . ويبقي أمامك في كل مرة تدين فيها غيرك : أنة تسأل نفسك قائلاً "ط من أقامني قاضياً "( لو 12: 14 ) أو من أقامني معلماً ؟ فإن وجدت أنك في موضوع المسئولية فعلاً ، فلا مانع ...
2- الإدانه تقوم علي أساس من المعرفة :
أن الله هو " ديان الأرض كلها "( تك 18 : 25 ) ، لأنه بالاضافة إلي سلطانه الإلهي ، يوجد عدل في دينونته لأنها قائمة علي أساسا من المعرفه الشامله الأكيدة ، فهو العارف بكل شئ ، وهو الفاحص القلوب ، والقارئ الأفكار ، ويعلم ما يجول في مشاعر الإنسان ونياته ، ويعرف الخفيات والظاهرات .
وقضاه الأرض يبنون عدلهم في أحكامهم علي أساس من التحقيقات ، توصلهم إلي ما يمكن الوصول إليه من المعرفة : تحقيقات في مراكز الشرطة و النيابة و المحكمة ، مع فحص الأدلة ، وسمع الشهود ومناقشتهم ، واعطاء فرصة كاملة للدفاع وللرد علي أدالة الأتهام
أما انت ، فما هي معرفتك حتي تحكم ؟!
إلا يحدث أن يدين الإنسان غيرة عن طريق السماع و الشائعات أحياناً ، وعن طريق الظن في أحياناً أخري ، وبدون سماع عن نفسه في كل الحالات تقريباً !! ودون معرفة بظروفه ، وقصده ، وأسباب ما حدث منه ..
وربما لو اتيح لنا أن نعرف الحقيقة كامله ، لندمنا علي أحكامنا واعتذرنا عنها !
من أجل هذا لا يجوز لك أن تدين إنساناً في تصرف ما بدون أن تبحث وتفحص وتتحقق وتعطية فرصه أن يجيب عن نفسه . وليس من اللائق أن تلقي أحكامك بسرعة ، وتحكم علي شخص قبل أن يحكم الله عليه ... وما أصدق قول الرسول .
" لا تحكموا في شئ قبل الوقت "( 1 كو 4: 5) .
ويتابع الرسول كلامه فيقول " حتي يأتي الرب الذي سينير خفايا الظلام ، ويظهر آراء القلوب . وحينئذ يكون المدح لكل واحد من الله "
قال القديس أوغسطينوس في تفسير هذه الآية (1 كو 4: 5 ) : هناك خطايا واضحة قال عنها الرسول " خطايا بعض الناس واضحه تتقدم إلي القضاء "( 1 تي 5: 24 ) . هذه الخطايا الواضحة إذا صدر عنها حكم ، لا يكون حكماً متسرعاً . ولكن هناك أموراً أخري غير واضحة إذا صدر عنها حكم ، لا يكون حكماً متسرعاً . ولكن هناك أمور اً أخري غير واضحه ، سيعلنها الله حينما يكشف ما في القلوب وينير خفايا الظلام ( 1 كو 4: 5 ) . عن هذه الأمور قال الكتاب " لا تحكموا قبل الوقت ".. لأن تصرفاً قد يبدو لنا أنه خطأ ., ولكن حينما يكشف اله نيات القلوب يظهر أنه تصرف سليماً ، وحينما يكشف الله نيات القلوب يظهر أنه خطأ . فلا تحكموا إذن قبل الوقت في هذه الأمور التي نيتها غير واضحة ، والتي ستبقي مخفاه إلي أن يعلنها الله .
إذن حكمنا هو في الأمور الواضحة . أما غير الواضحة فنتركها لله ، إلي أن يعلنها .
3- لايجوز أن تحكموا علي أحد وأنت مثله ، أو أسوأ :
وهذا واضح من قول السيد المسيح للذين طلبوا رجم المرأة المضبوطه في ذات الفعل . فمع أن الخطيئة كانت واضحه وفاضحة وثابته ، إلا أنه قال لهم " من كان منكم بلا خطية ، فليرمها أولاً بحجر " ( يو 8: 7) . فانصرفوا جميعاً وتركوها لأن الكل خطاة . والمثل يقول " من كان بيته من زجاج ، لا يقذف الناس بالحجارة "
لذلك فالإنسان المتواضع لا يدين أحداً ...
إنه ينصت في انسحاق قلب إلي قول السيد المسيح " لماذا تنظر القذي في عين أخيك . وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها ؟! ... يا مرائي اخرج أولاً الخشبة من عينك . وحينئذ تبصر جيداً أن تخرج القذي من عين أخيك " ( متي 7: 3-5 ) .
والمتضع إذاً اضطر أن يدين ، يفعل ذلك باتضاع .
لا بعجرفة ، ولا بكبرياء ، ولا باحتقار وازدراء لغيره . ويكون موضوعياً ، فلا يجرح إحساس غيره ولا يخجله . وكما قال الرسول " أيها الأخوة إن إنسيق إنسان ، فأخذ في زلة ، فاصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعه ، ناظراً إلي نفسك لئلا تجرب أنت أيضاً . احملوا بعضكم اثقال بعض "( غل 6: 1، 2 ) .
4-ولا تكون الإدانه بحقد ولا بغيظ ولا بكراهية :
حتى إن كان الذي يدين بفعل ذلك بسلطان وعن معرفه ، إلا أن ادانته إذا ما إذا ما اختلطت بالكراهية والحقد تصبح أدانه خاطئة . لأن " المحبة لا تفرح بالاثم ، بل تفرح بالاثم ، بل تفرح بالحق "( 1كو 13 : 6 )
سئل القديس باسيليوس الكبير عن معني قول الرب " لا تدينوا لكي لا تدانوا " ( متي 7: 1 ) ، فأجاب : قال الرب في موضع آخر :
" لا تنظر إلي الوجوه ... العدل العدل تتبع لكي تحيا "( تث 16 : 19 ، 20 )
" لا ننظر إلي الوجوه " أو " لا تأخذ بالوجوه " معناها " لا تحاب " . إياك و المحاباه ، بل أحكم بالعدل و الحق . وهنا قال القديس :
إن الله لم يمنعنا عن الإدانه جمله ، بل أمرنا أن ندين بالحق ، في الوقت المناسب وعن عمل دون عمل . فالأشياء التي لم يحد الكتاب لها حداً ، بل وضعها تحت سلطان الإنسان مثل الأكل و الشرب وغير ذلك ، قال الرسول فيها " لماذا تدين أخاك ...؟ "( رو 14 : 10 ) وأيضاً " لا نحاكم بعضاً بعضاً " ( رو 14 : 13 )
" أما الأمور التي لا ترضي الله ... فقد لام الذين لا يدينوا عليها "
يقصد لام المجموعة كلها The whhole community لأنه كان ينبغي عليها أن تدين الشخص المخطئ . وذكرهم بقول الكتاب " اعزلوا الخبيث من وسطكم "( 1 كو 5 : 13 ) . فربما من أجل خطية إنسان واحد ، يحل غضب الله علي المجموعة كلها .
والمجموعة مسئولة عن أن تنظف نفسها ، وتعزل الخبيث من وسطها ، لئلا يحل غضب الله علي الكل بسبب خطية واحد .
لقد كادت السفينة كلها أن تغرق بسبب خطية واحد هو يونان ، بينما باقي ركابها ما كان لهم ذنب . وأيام يشوع بن يونان ، غضب الله علي المجموعة كلها بسبب خطية واحد هو عخان بن كرمي ( يش 7 ) . فمن الحق أن تدين الشر الذي فيها ، وتخرجه خارجاً ، لئلا تهلك كلها بسببه
ولكن هذه الخطوه تحتاج إلي حكمة .
قال القديس باسيليوس إن هناك بعض الأمور التي ينطبق عليها قول الكتاب :
غيره بيتك أكلتني ، لأن اعداءك نسوا وصاياك "( مز 119 ) .
إنها غيرة لله . ولابد للإنسان أن يفرق بين ما إذا كان الدافع للإدانة هو الغير ة المقدسة ، إم أن الدافع هو حقد شخصي ، أو كراهية شخصية ، أو شماته بإنسان مخطئ . فإن كانت هي الغيرة المقدسة – وليس تكون الإدانه مقبولة . ولكن
هذه الغيرة ينبغي أن تكون حسب المعرفة ( رو 10 : 2 ) .