الملك الحقيقي ، و المالك الحقيقي ، هو الله وحده .
إنه يملك علي كل شئ ، لأنه خالق كل شئ ، و موجود كل شئ ..يملك الكون كله ، بكل ما فيه من مخلوقات . و هكذا قال المرتل في المزمور " للرب الأرض و ملؤها ، المسكونة و جميع الساكنين فيها " ( مز 22 : 1 ) . ثم دخلت الخطية إلي العالم ( رو 5 : 12 ) ، و ملكت علي قلوب الناس و علي إرادتهم . و بالخطية دخل الموت ، و إجتاز إلي جميع الناس ( رو 5 : 12 ) وملك الموت ( رو 5 : 14 ، 17 ) ، و أصبح الجميع تحت سلطانه !
ملكت الخطية دون إذن ( رو 5 : 21 ) و ملك معها الموت .
و إذ ملكت الخطية ، ملك الشيطان ، و أصبح يلقب برئيس هذا العالم ! ( يو 14 : 30 ) أي رئيس هذا العالم الخاطئ .. و استمر الشيطان يسيطر علي الكل ... اختفي النور ، و ملكت الظلمة ، لأن الناس أحبوا الظلمة أكثر من النور ( يو 3 : 19 ) . لذلك قال لهم السيد في مناسبة القبض عليه " هذه ساعتكم و سلطان الظلام " ( لو 22 : 53 ) . لقد ملكت الظلمة علي أفكار الناس و رغباتهم ...
و كان لابد أن يستعيد الله ملكه .
كان لابد أن تنتهي دولة الشيطان ، و يطرح خارجاً ( يو 12 : 31 ) . و يسقط رئيس هذا العالم مثل البرق من السماء ( لو 10 : 18 ) . كان النور الحقيقي اَتياً إلي العالم ( يو 1 : 9 ) فيملك علي العالم و ينقشع الظلام ...
و لكن متي ملك الرب ؟ و كيف ؟
" الرب ملك علي خشبة " كما قال المزمور ( مز 95 ) .
أي أنه ملك علي الصليب ، و اشترانا بدمه ( رؤ 5 : 9 ) ، فصرنا ملكه . و علي الصليب غنت الملائكة بقول المزمور " الرب قد ملك " فلتتهلل الأرض . لتفرح الجزائر الكثيرة " ( مز 96 ) " الرب قد ملك فلترتعد الشعوب " ( مز 96 ) .
ملكوت الرب إذن مرتبط بالصليب و الفداء . و من هنا كان أبناء الملكوت هم كل المفديين .
وقد تم الفداء ، بموت المسيح علي الصليب ، وقت الساعة التاسعة . لذلك فإن مزامير الساعة التاسعة تكثر فيها عبارة " الرب قد ملك " . و لما كان الصلب هو مقدمة الموت ، فإن آخر مزمور في صلاة الساعة السادسة – ساعة الصلب- هو مزمور " الرب قد ملك و لبس الجلال " ( مز 92 : 1 ) . إذن في قولنا ليأت ملكوتك ، نذكر الفداء العظيم ، فبدون الفداء ما كان ملكوت .
و نحن بعبارة " ليأت ملكوت " نطلب أن يشمل الفداء كل أحد ، يؤمن به الكل ، و يتمتع به الكل .
و ذلك لأن الرب لم يقدم الخلاص لفرد ، و إنما حمل خطايا العالم كله ( يو 1 : 29 ) لخلص الكل بالفداء ...
* * *
بدأت تباشير الملكوت بميلاد المسيح . و اقترب الملكوت بكرازته . و تم الملكوت علي الصليب .
و لذلك نجد أن يوحنا المعمدان كان يكرز قائلاً " توبوا فقد اقترب ملكوت السموات " ( مت 3 : 2 ) . و كانت هذه هي أيضاً كرازة السيد المسيح . كان " يكرز ببشارة ملكوت الله . و يقول : قد كمل الزمان ، و اقترب ملكوت الله . فتوبوا واَمنوا بالإنجيل " ( مز 1 : 14 ، 15 ) . و لما أرسل تلاميذه في أول مرة ، أمرهم قائلاً " و فيما أنتم ذاهبون ، اكرزوا قائلين إنه قد إقترب ملكوت السموات " ( مت 10 : 7 ) . و هكذا كانت الكرازة و البشارة بالملكوت ، هي عمل السيد المسيح ، و عمل المعمدان الذي سبقه ، و عمل الرسل من بعده . بل كان الملكوت أيضاً طلبة اللص اليمين علي الصليب ( لو 23 : 43 ) .
و طلب هذا الملكوت هو صلاة يومية لجميعنا .
فهكذا علمنا الرب – متي صلينا – أن نقول لأبينا السماوي " ليأت ملكوتك " ( لو 11 : 2 ) .. لكي تصبح هذه الطلبة – من عمق أهميتها – لاصقة بقلوب الكل ، يذكرونها كل يوم و كل ساعة ، و في كل صلاة ...
هذا الملكوت هو مملكة الله ...
يملك فيها الله بالبر و بالسلام . و لذلك يقال عن الله إنه ملك السلام ، و ملك البر . و نحن نرتل إلي الله قائلين له : ياملك السلام ، اعطنا سلامك ...
هذا الملكوت هو مملكة القديسين ...
و في هذا المجال تعجبني أغنية جميلة سجلها القديس يوحنا الرسول في رؤياه ، سمعها من الغالبين ، و هم يرتلون في السماء قائلين " عظيمة و عجيبة هي أعمالك ، أيها الرب القادر علي كل شئ . عادلة و حق هي طرقك يا ملك القديسين " ( رؤ 15 : 3 ) .
حقاً إن الله هو ملك علي القديسين .
منطقياً هو ملك علي العالم كله ، كخالق و كإله .. و لكن من الناحية العملية هو ملك علي القديسين الذين سلموه حياتهم بالتمام ، يملك عليها و يدبرها حسب مشيئته الصالحة . أما الأشرار فهم متمردون علي ملكوته .. الله هو إذن ملك علي الذين يفتحون له قلوبهم .
و الذين يفتحون قلوبهم هم القديسون ، لذلك فالرب ملك القديسين .
كل أعضاء مملكة الله ، من القديسين . و كل من لا يحيا حياة البر و القداسة ، ليس هو عضواً في ملكوت الله . و لأن القداسة هي محبة الإنسان لله من كل قلبه ...
لذلك قال الكتاب " ملكوت الله داخلكم " .
ملكوت الله هو أن يملك الله علي قلب المؤمن ، و علي فكره و علي حواسه ، و علي حياته كلها . فيصبح كل ما فيه ملكاً لله ، مقدساً لله . و بهذا دعي أعضاء الملكوت بأنهم قديسون .. هؤلاء القديسين هم " الذين قبلوه " الذين آمنوا به ، و اعتمدوا ، و صاروا أعضاء في جسده ، أي في الكنيسة ، يمارسون حياتها ، و يتمتعون بأسرارها المقدسة ، و يحفظون وصايا الرب .
لذلك حسن أن نقول أن مملكة الله هي الكنيسة المقدسة .
و رؤساء الكنيسة ، إنما هم وكلاء لله ، أقامهم علي عبيده لرعايتهم ، و سيعطون حساباً عنهم أمامه ... و كل من هو داخل الكنيسة ، محفوظ في الملكوت . أما الأشرار فإنهم يقفون خارجاً ، في الظلمة البرانية . لا لأن الله رفضهم من ملكه ، و إنما لأنهم هم الذين رفضوا أن يملك الله عليهم ...
و الأبرار يسميهم الكتاب " بنو الملكوت " ...
فلينظر كل إنسان إلي نفسه ، هل هو من أبناء الملكوت ؟ إن الله يريد أن يمتلئ ملكوته بالمؤمنين . و هؤلاء يصرخون إليه قائلين " تقلد سيفك علي فخذك أيها الجبار . استله ، و انجح ، و املك " . و لكن الله لا يشاء أن يملك إلا بإرادتنا . إنه يريدنا أن نحب ملكوته ، و نسعي إليه ، لا أن يدخلنا إلي الملكوت قهراً و إجباراً . الله له الملك . و لكنه وهب الناس حرية الإرادة ، يخضعون بها لملكه إن أرادوا ، أو لا يخضعون . يسيرون تحت قيادته الروحية أو لا يسيرون ... البعض قبلوه ملكاً . و البعض في تمرد و خيانة ، صاحوا قائلين " ليس لنا ملك إلا قيصر " ( يو 19 : 15 ) .
* * *
هنا و نسأل : ما المقصود بطلبة " ليات ملكوتك " ؟
إنها بلا شك تدل علي عدة معان أو مقاصد ، من الممكن أن تكون موضع تأمل المصلي . فيركز علي أحد هذه المعاني أو عليها كلها :
1 – المعني الروحي : ملكوت الله علي القلب .
إنه الملكوت الداخلي الذي قال عنه الرب " ملكوت الله داخلكم " ( لو 17 : 21 ) .. أي أن الله يملك علي المشاعر و العواطف و النيات و يملك علي الإرادة و علي الرغبات و الشهوات ، و يملك أيضاً علي الأفكار و الحواس . و إذا ملك الرب علي القلب ، يملك بالتالي علي كل ما يصدر عن هذا القلب . لأن " الإنسان الصالح ، من كنز قلبه الصالح يخرج الصالحات . و الإنسان الشرير ، من كنز قلبه الشرير يخرج الشرور " ( مت 12 : 35 ) . لقد تكلمنا عن عبارة ( ليأت ملكوتك ) ، من جهة الملكوت الداخلي ، الذي به يملك الرب حياة الإنسان كفرد ...علي أن العبارة قد تتسع ، فيشمل الملكوت كل القلوب الخاضعة للرب . و هنا يكون الملكوت هو الكنيسة ... و حينما يقول الكتاب إن الإبن سيسلم الملك كله للآب ( 1 كو 15 : 24 ) إنما يعني إنه سيسلمه الكنيسة ...
2 – المعني الثاني ، هو الملكوت بالمعني الكرازي .
أي ينتشر ملكوتك في الأرض كلها . ينتشر الإيمان في كل الأمم و كل الشعوب ، و في كل مدينة و قرية .. و يعرف الجميع إسم الرب ، و يسيرون في طرقه . و هنا تكون الطلبة صلاة إلي الله أن يعمل روحه القدوس علي نشر الإيمان ، و يعطي قوة للكرازة و نعمة للسامعين ... و عن الملكوت بهذا المعني نصلي في المزمور قائلين :
فلتعترف لك الشعوب يا الله ، فلتعترف لك الشعوب كلها ( مز 66 ) .
و به يتحقق أيضاً قول المرتل " للرب الأرض و ملؤها ، المسكونة و كل الساكنين فيها " ( مز 24 : 1 ) . أي يصبح العالم كله ملكاً لله ، لأنه له ... و كان الرب يقصد هذا الملكوت حينما قال لتلاميذه " اذهبوا إلي العالم أجمع ، و اكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها . من آمن و اعتمد خلص " ( مز 16 : 15 ،16 ) . و كما قال لهم أيضاً " اذهبوا و تلمذوا جميع الأمم ، و عمدوهم باسم الأب و الإبن و الروح القدس ، و علموهم جميع ما أوصيتكم به " ( مت 28 : 19 ، 20) . هذه هي مملكة الله : كل الذين آمنوا و اعتمدوا و نفذوا الوصايا .
مملكة الله هي صورة سفر الرؤيا : الكنائس السبع ، و في وسطها إبن الإنسان ، أي كل الكنائس ، و الرب وسطها .
مملكة الله هي المنائر الذهبية ، تشع نوراً عل العالم .
* * *
و نحن نصلي أن يكون جميع الناس ، أعضاء في هذا الملكوت و أبناء للنور . و لأن الأمر لايمكن أن يتم بمجرد بشري ، لذلك نصلي إلي الله قائلين " ليأت ملكوتك " . نصلي إليه من أجل الذين لم يعرفوه بعد ، لم يؤمنوا به ، و ام يقبلوه فادياً و مخلصاً . نصلي من أجل البلاد الملحدة ، و البلاد التي تعبد عبادات أخري مثل بوذا و براهما و كنفوشيوس و أمثالها . و من أجل البلاد التي لا تؤمن بالإنجيل . و نقول من أجل كل هؤلاء " ليأت ملكوتك " .
* * *
ولسنا نصلي من أجل الإيمان فقط ، إنما أيضاً قدسية الحياة .
لا نقصد ليأت ملكوتك بالنسبة للملحدين و الوثنيين فحسب ، إنما أيضاً من أجل الذين دعي إسم المسيح عليهم ، و لكنهم محتاجون إلي التوبة ، لأن مجرد الإسم بدون حياة لايخلص . نطلب أن يملك الرب إيمان هؤلاء ويعطيه ثمراً ...
* * *
3 - المعني الثالث للملكوت ، يقصد به الملكوت السماوي ، الأبدي في أورشليم السمائية ...
هناك مسكن الله مع قديسيه ، يجتمع معه الملائكة ، و كل القديسين الذين إنتقلوا ، و القديسين الذين يحيون معنا ، و الذين سيولدون ... الكل ينضمون كأعضاء في جسد المسيح ، تكميل القديسين . هذا الملكوت السماوي ، هو الذي قال عنه الرب " نعماً أيها العبد الصالح و الأمين ، كنت أميناً في القليل ، فسأقيمك علي الكثير . أدخل إلي فرح سيدك " ( مت 25 ) . و قال عنه أيضاً " تعالو يا مباركي أبي ، رثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم " . أي ملكوت الله ، و موعده بعد القيامة و الدينونة ، حينما يأتي في مجيئه الثاني ، لينهي هذا العالم المادي ، و يضم مختاريه إلي ملكوت السموات ، إلي أورشليم السمائية التي هي مسكن الله مع الناس ( رؤ 21 : 2 ، 3 ) ... حينما يخضع الكل ، و اَخر عدو يبطل هو الموت ، و يسلم الملك لله الآب ( 1كو 15 : 24، 27 ) . كأننا هنا في صلاتنا هذه نطلب الأبدية السعيدة ... و لكننا في طلبتنا ( ليأت ملكوتك ) . نقصد الأنواع الثلاثة من الملكوت :
الله في ملكوته يملك بالحب لا بالضغط .
يملك علي الذين يحبونه ، لا يضغط علي أحد ، و لا يرغم أحداً علي الإنضمام إلي ملكوته . إنما يريد الذين ينضمون إليه بإرداتهم الحرة ، كذلك القديس الذي قال " من كل قلبي طلبتك ، فلا تبعدني عن وصاياك " ( مز 119 ) . هوذا الله يخاطب كل أحد منذ القديم قائلاً " قد جعلت قدامك الحياة و الموت ، البركة و اللعنة . فاختر الحياة لكي تحيا أنت و نسلك . إذ تحب الرب إلهك ، و تسمع لصوته و تلتصق به ، لأنه هو حياتك " ( تث 30 : 19 ، 20 ) .
إنه يقول " يا إبني أعطني قلبك " ( أم 23 : 26 ) .
لأنه يريد أن يملك علي هذا القلب بالذات .
إنه واقف علي باب هذا القلب يقرع ( رؤ 3 : 20 ) . إن فتح أحد له ، يدخل و يتعشى معه . يكشف له ذاته ، و يمتعه بالحياة معه ... و إن لم يفتح له ، يظل واقفاً علي الباب يقرع . لا يدخل بالعنف و لا بالضغط و لا بالسيطرة . إنما بالحب . يظل واقفاً علي الباب يقرع ، حتى لو إمتلأ رأسه من الطل ، و قصصه من ندي الليل ( نش 5 : 2 ) .
ملكوت الله ليس مظاهر ، و إنما حب ...
إنه ليس علاقة بين سيد وعبيد ، إنما مشاعر بين أب و أبناء . لذلك دعي في ملكه أباً ، بكل ما تحمله كلمة أب من حنان و رعاية . و أما أعضاء هذا الملكوت ، فهم أبناء الملكوت ، أبناء ذلك الأب السماوي ، بكل ما تحمله كلمة البنوة من مشاعر و أحاسيس و عواطف . يطيعون أباهم ، ليس بخضوع العبيد ، إنما بولاء الأبناء و ثقتهم في أبيهم .
أنظروا كيف ملك الرب علي السامرة مثلاً ؟
ذهب إلي هناك ، و رفضت قرية سوخار أن تقبله . فتضايق تلميذاه يعقوب و يوحنا و قالا له " هل تشاء يا رب أن تنزل نار من السماء ، و تحرق هذه المدينة ؟ " .. فقال لهما الرب " لستما تعلمان من أي روح أنتما . إن إبن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس ، بل ليخلص " ( لو 9 : 51 – 56 ) .
أنا سأملك علي السامرة . و لكني سأملك عليها بالحب ، و بقبول إرادتها ، و ليس بالعنف ...
العنف ليس طريقتي ، و لن يوصل إلي القلب . و أنا ما أريده هو القلب " يا أبني اعطني قلبك " ( أم 23 : 26 ) .. و القلب هو الحب . و اعطني قلبك معناها اعطني حبك . و عندما أملك قلبك و حبك ، سأملك بالتالي إرادتك .. و هذا هو ملكوتي . و أنا لا أريد أن أملك كل ذلك بالعنف ، فالعنف ليس هو إسلوب الله في امتلاك القلوب .
و طريق الحب طويل المدى ، كثير الجهد .
و الله مستعد أن يتعب ليملك هذا الإنسان . هو مستعد أن يمد يده طول النهار لشعب معاند مقاوم ( رو 10 : 21 ) . و الله مستعد أن يصبر حتى يملك القلب ، و القلب يحرك الإرادة ، يحركها نحو الله ،فيريد الإنسان أن يحيا مع الله . و هذا ما يريده الله .
و نحن حينما نقول : ليأت ملكوتك ، إنما نقصد ملكوته علي إرادتنا و قلوبنا .
إنها صلاة منا إليه ، أن يحول قلوبنا نحوه ، و أن يحول إرادتنا نحو مشيئته . و كأننا نقول له " تعال يا رب و أملك " . وإن أردت أن تملكنا ، و لم نرد نحن ، فلا تتركنا بل حول قلوبنا نحوك . اسكب محبتك في قلوبنا بروحك القدوس ( رو 5 : 5 ) .
تعال يا رب و املك . و لا تسمح للخطية أن تملك علينا ...
و لا تسمح للشيطان أن يبقي رئيساً لهذا العالم ، و لا رئيساً لأبنائك الذين اشتريتهم بالدم الكريم . نحن ملكك ، فتمسك بملكوتك علينا . و لا تسمح لأي أحد أو لأي شئ ، أن يخطفنا من يدك ( يو 10 : 28 ) أو يبعدنا عنك ...
عبارة " ليأت ملكوتك " هي صلاة لأجل الملكوت ، و أيضاً لأجل أنفسنا ، و لأجل خدام الملكوت .
و ينبغي أن نكون جميعاً من خدام الملكوت ... إنها صلاة من أجل كل رتب الكهنوت ، و من أجل كل الوعاظ و الكارزين و الخدام و المعلمين و المرشدين ، و من أجل كل نفس لها تعب في الكنيسة . و أيضاً من أجل أن تكثر القدوات الصالحة التي يتعلم الناس من حياتها كنماذج عملية قدامهم . و بهذه القدوات ينتشر الملكوت . نحن يا رب قد تعبنا النهار كله و لم نصطد شيئاً ، و لكن علي إسمك نلقي الشبكة ( لو 5 : 5 ) قائلين : " ليأت ملكوتك " .. إنه صراع مع الله لأجل ملكوته ...
علي أن عبارة " ليأت ملكوتك " ليست هي مجرد صلاة ، إنما هي صلاة و عمل . تشمل أيضاً عملنا لأجل الملكوت .
إن كنا حقاً نطلب ملكوت الله ، فلنعمل من أجله ، فلنشترك في بنائه ، و نجول نفعل خيراً ( أع 10 : 38 ) . و نخلص علي كل حال قوماً .. ( 1كو 9 : 22 ) لأنهم كيف يؤمنون إن لم يسمعوا ، و كيف يسمعون بلا كارز ؟! ( رو 10 : 14 ) . هل نطلب أن ينتشر ملكوت الله في الأرض كلها ، و نحن نيام كسالي ؟ إذن أين الحب ؟ و أين الغيرة ؟
أنظروا إلي بناة الملكوت ، كيف يقول عنهم بولس الرسول :
" .. بل في كل شئ نظهر أنفسنا كخدام الله ، في صبر كثير ، في شدائد في ضرورات في ضيقات ، في ضربات في سجون في إضطرابات . في أتعاب في أسهار في أصوام .. في كل كلام الحق ، في قوة الله .. بمجد و هوان ، بصيت رديء و صيت حسن . كمضلين و نحن صادقون .. كمائتين و ها نحن نحيا .. ( 2كو 6 : 4 – 9 ) . " بأسفار مراراً كثيرة ، بأخطار سيول ، بأخطار لصوص ، بأخطار من الأمم ، بأخطار من أخوة كذبة " ( 2 كو 11 ) .
حقاً إن الله يعمل من أجل بناء ملكوته ، ولكن ينبغي أن نشترك معه في العمل ، ونطلب نعمته أن تشترك معنا .
كم قال بولس الرسول ، عن نفسه وعن سيلا " نحن عاملان مع الله " ( 1 كو 3 : 9 ) . هذه هي شركة الروح القدس .. نحن لا نشترك مع الروح في الطبيعة و الجواهر ، إنما نشترك في العمل .
وكل واحد منا ، له دور في بناء الملكوت :
وفي هذا قال بولس الرسول " أعطي البعض أن يكونوا رسلاً ، و البعض أنبياء ، و البعض مبشرين ، و البعض رعاة و معلمين ، لأجل تكميل القديسين ، لعمل الخدمة ، لبنيان جسد المسيح " ( أف 4 : 11 ، 12 ) .
حينما نقول " ليأت ملكوتك " ، إنما نقدم انفسنا عملياً لخدمة هذا الملكوت .
نحن مستعدون يا رب أن نبني الملكوت معك ، وننشره معك ، و نعمل فيه معك . لا نريد أن نأخذ منك موقف المتفرج ، و نقول " ليأت ملكوتك " و نحن في سلبية مخجلة !! كلا ، بل ليأت هذا الملكوت ، و كلنا خدام لمجيئه ، نبذل في سبيل ذلك كل ما تهبنا من قوة ... كلنا كسفراء لك : ننادي ، كأن الله يعظ بنا ، و نقول للكل " اصطلحوا مع الله " ( 2 كو 5 : 20 ) . سلموه قلوبكم لكي يملكها ... نقولها ونحن نصلي من أعماقنا من أجل الخدمة و الخدام ، و من أجل كل نفس تخدم هذا الملكوت و تبذل في سبيله ، و من أجل كل قلب لم يدخل إلي الملكوت بعد ... نقول " ليأت ملكوتك " ، و نحن نطلب إلي الرب الحصاد أن يرسل فعلة لحصاده " ( مت 9 : 38 ) .
نصلي و نقول : تعال يا رب و استلم ما تملكه .
من الناحية النظرية و الرسمية ، أنت يا رب تملك كل شئ . ولكن من الناحية العملية يوجد تمرد علي ملكوتك . و العالم لا يسلمك ما تملكه ، و كذلك نحن ! فنحن نقول " ليأت ملكوتك " ، إنما نقول ضمناً " تعال يا رب و استلم ما تملكه .. ضع يدك عليه فعلاً ، سواء ما تملكه فينا أو في غيرنا " تقلد سيفك علي فخذك أيها الجبار . استله و انجح و املك " ( مز 45 ) .
لماذا تترك العالم هكذا ، يعبث فيه الإلحاد و التجديف و الفساد و الإنحراف ؟
و تنتشر في الخطية ، و يتسلط عليه الشيطان ! أليس كله لك . تعال إذن و املك فعلاً ما هو لك شرعاً و قانوناً . و لا تترك الناس إلي أنفسهم يتمردون علي ملكوتك . فليس هذا صالحاً لهم ...
و إن لم يكن ممكناً أن يأتي الملكوت دفعة واحدة ، فليأت بالتدريج .
إن كنت أنا يا رب لا أستطيع أن أجعلك تملك كل وقتي ، فاعطني أن تملك البكورات فيه . فأقدم لك الساعة الأولي من النهار . فإن ملكتها ، يمكنني بنعمتك أن أفتح لك هذا القلب مرات و مرات ... إعطني أن أكون أميناً في القليل ، فأتركه لك . حينئذ أتدرج إلي أن أكون أميناً فيما هو أكثر ، إلي أن تصبح الحياة كلها لك ...
حقاً إن عبارة " ليأت ملكوتك " فيها توبيخ لي .
فليس منطقياً أن أقول " ليأت ملكوتك " بينما أنا مشغول عنه بأمور العالم !!
هل أطلب الملكوت ، و أنا هارب منه ؟! فإن أردنا أن يملك الله علي قلوبنا ، فيجب أن نخلي القلب من محبة العالميات التي تعطله عن محبة الله . فالكتاب يعلمنا أنه " لا شركة بين النور و الظلمة ، و أية خلطة للبر و الإثم ؟! " ( 2 كو 6 : 14 ) حقاً ، كيف يملك الله قلباً و شهوات العالم مالكة عليه ؟! فلنحاول إذن إزالة المعطلات التي تعرقل ملكية الله لنا ، سواء كأفراد أو جماعات .
و أن أردنا أن نكون من بني الملكوت ، فلنعرف صفاتهم .
هوذا الرب يقول عن الملكوت ... " طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات " ( مت 5 : 3 ) . و يقول أيضاً " إن لم ترجعوا و تصيروا مثل الأطفال ، فلن تدخلوا ملكوت السموات " ( مت 18 : 3 ) . هل نفهم من هاتين الآيتين إنه ينبغي أن نتصف بالإتضاع و أيضاً ببساطة الأطفال و براءتهم لنكون من بني الملكوت ؟
ما أجمل أن نتأمل باقي الآيات الخاصة بالملكوت ، لنعرف أعماق عبارة " ليأت ملكوتك " ...
اترك هذا مجالا لتأملاتكم الخاصة . و يكفي أن أقول إنه مادمنا قد اشترينا بثمن ، و إننا لسنا لأنفسنا ( 1 كو 6 : 20 ، 19 ) ... فقد صرنا كلنا لله ، هو الذي يملك كل حياتنا و وقتنا ، و كل قلوبنا و أفكارنا و مشاعرنا و حواسنا . فلتعترف بهذه الحقيقة ، و لنقل له :
" ليأت ملكوتك "
إنها طلبة تعني حياة التسليم للمشيئة الإلهية . أي أننا لا نفرض علي الله وضعاً معيناً نحيا فيه . بل ما يريده الله لنا ، هو ما نرضاه و نقبله . و في حياة الإيمان بالله كصانع للخيرات ، نفرح بما يشاءه لنا ، حتى لو كان عكس ما نرغب . بل نقول له : " لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك " .
" ليس كما أريد أنا ، بل كما تريد أنت " ( مت 26 : 39 ) .
أنت يا رب تعرف الخير النافع لي ، أكثر مما أعرف أنا . و أنت تريد لي الخير أكثر مما أريد أنا لنفسي . لذلك فأنا أسلم حياتي بين يديك ، تفعل بها كما تشاء ، و أكون سعيداً بذلك ...
لا أقول " لتكن مشيئتك " عن تغصب ، و إنما عن إقتناع .
ما أكثر الأمثلة التي يقدمها لنا الكتاب عن حياة التسليم هذه : في مقدمتها في العهد القديم مثال أبينا ابراهيم : قال له الرب في بدء دعوته " اخرج من أرضك و من عشيرتك و من بيت أبيك ، إلي الأرض التي أريك .. " ( تك 12 : 1 ) . فخرج ابراهيم من وطنه حسب أمر الرب له " و هو لا يعلم إلي أين يذهب " ( عب 11 : 8 ) . و أمامه عبارة " لتكن مشيئتك " ..
ثم كانت مشيئة الرب الأخرى لابراهيم ، فوق الطاقة البشرية !
حيث قال له " خذ إبنك وحيدك ، الذي تحبه ، اسحق .. و اصعده لي محرقة علي الجبل الذي أريك إياه " ( تك 22 : 2 ) . فبكر إبراهيم صباحاً جداً ، و أخذ إبنه معه ليقدمه محرقة للرب ، و هو الإبن الذي نال به المواعيد ، و الذي إنتظره من عشرات السنوات ..
ابراهيم في إيمانه بمشيئة الرب ، لم يناقش ، بل أطاع .
كان يؤمن بصلاح الله ، و بمحبته ، و بصدق مواعيده حتى إن ذبح اسحق و قدمه محرقة ... كان يؤمن بقدرة الله علي إقامة إسحق من الموت ( عب 11 : 19 ) . و أياً كان الأمر لم يضع أمامه أن يفكر ، إنما هي مشيئة الرب الصالحة يجب أن تنفذ ...
السيدة العذراء لم تفكر في يوم من الأيام أنها ستحبل و تلد .
و لكن لما أتتها مشيئة الله ، أنها ستكون أماً ، و بطريقة معجزية ، قالت للرب " ليكن لي كقولك " " هوذا أنا أمة الرب " .
و حياة التسليم كانت منهجاً ثابتاً للقديسة العذراء .
لا شك إنها كانت تحب البقاء في الهيكل ، في حياة الصلاة و التأمل و العبادة ، و لكن الرب نقلها إلي أماكن متعددة ، من الهيكل ، إلي بيت يوسف ، إلي بيت لحم ، إلي مصر ، إلي الناصرة ، وهي لا تقول سوي " ليكن لي كقولك " .. " لتكن مشيئتك " ... و مع أن بشري الميلاد كانت تحمل معني الفرح بميلاد مخلص هو المسيح الرب ( لو 2 : 11 ) . حسبما قال الملاك للرعاة " ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لكم و لجميع الشعب " .. إلا أنه بدلاً من هذا الفرح ، صدر الأمر الإلهي أن تهرب العذراء بهذا المخلص إلي أرض مصر ، إلي بلاد غريبة عنها موضعاً و ديانة و لغة ، يطردونها فيها من مدينة إلي أخري ، بسبب تساقط الأصنام ( أش 19: 1 ) أن العذراء لم تحتج علي سفرها و عدم إستقرارها في موضع ، بل كانت في قلبها تلك التسبحة " ليكن لي كقولك " .
الملائكة أيضاً لا يناقشون مشيئة الله .
ويسرعون في تنفيذها بلا إبطاء ...
و هكذا يقول عنهم المرتل في المزمور " باركوا الله يا ملائكته ..الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه " ( مز 103 : 20 ) . و هم ينفذون الأمر مهما كان يبدو عجيباً أو شديداً .. مثل الملاك الذي أمره الرب بضرب كل أبكار مصر ( خر 12 : 13 ) . أو الذي أمره أن يرفع السيف علي أورشليم ( 2 صم 24 : 16 ) ... و الإنسان الذي يطيع بلا جدال – مهما كان الأمر – هذا يتشبه الملائكة .
ليس عمل الملاك هو التدبير أو التفكير ، إنما عمله أن ينفذ .
عمله أن يقول للرب " لتكن مشيئتك " ... فملائكة الأبواق ، أو ملائكة الضربات ، الذين وردت رسالتهم في سفر الرؤيا ( رؤ 8 ، 9 ) ، لم يقولوا للرب : يا رب نحن ملائكة للرحمة ، و ليس للإهلاك أو العقوبة . إعفنا من هذا الأمر ! كلا ، بل نفذوا و لم يناقشوا ..
عبارة ( لتكن مشيئتك ) كما تحتاج إلي إيمان و طاعة ، تحتاج أيضاً إلي إتضاع قلب ...
إتضاع الإنسان الذي لا يكون حكيماً في عيني نفسه ( أم 3 : 7 ) إلي الدرجة التي يراجع بها الله في أوامره و يناقشه ، و يقول له : لماذا ؟ .. و لو أن بعض القديسين كانوا يجادلون الله ، عن دالة و ليس عصيان ، و لا عن شك ... الإنسان المتضع يقبل كل ما يشاءه الله في ثقة و في خضوع . أما الذي يعتمد علي فكره ، فإنه يفحص أعمال الله ، بل و يصدر عليها أحكاماً !! و يقبل بعضها ، و لا يقبل البعض الآخر ! إنه يظن في نفسه أنه شئ . لذلك يقول الكتاب " لا تكونوا حكماء عند أنفسكم " ( رو 12 : 16 ) و يقول أيضاً " و علي فهمك لا تعتمد " ( أم 3 : 5 ) . الإنسان المتواضع يقول : من أنا يا رب حتى أفحص أعمالك ؟!
" ما أبعد أحكامك عن الفحص ، و طرقك عن الإستقصاء " ( رو 11 : 33 ) .
لا يجوز أن نضع مفاهيمنا مقياس نقيس به عمل الله . إنما نتقبل ما يعمله بالإيمان ، و ليس بالفحص . و لانخضع مشيئة الله لفهمنا البشري . لأنه ما أعمق النقص في فهمنا .
متي العشار أطاع المشيئة الإلهية بمجرد كلمة .
كان في مكان الجباية ، و في موضع مسئولية مالية . و بمجرد أن سمع من الرب كلمة ( اتبعني ) ، حتى ترك كل شئ و تبعه ( مت 9 : 9 ) و كذلك باقي الرسل في دعوتهم ، تبعوا الرب و هم لا يعرفون ماذا يكون مستقبلهم معه ، و لا ما هو نوع عملهم ، أو مكان إقامتهم ، أو وضعهم المالي ، مثلما يفعل البعض ، حينما يدعون للكهنوت . أما آباؤنا الرسل فقابلوا دعوة المسيح بروح عبارة " لتكن مشيئتك " .
يمكن للإنسان أن يتدرب علي عبارة ( لتكن مشيئتك ) .
يبدأ مثلاً بإطاعة أوامر والديه ، دون عصيان ، و دون تذمر ، و دون مناقشة ، بل بثقة ، و بدون إبطاء . إن فعل هذا سيسهل عليه أن يطيع مشيئة الله ، بكل إيمان .. ينفذ هذا أيضاً من جهة أوامر أب اعترافه ، و أوامر رؤسائه بالعمل . فيتعود تنفيذ مشيئة غيره .
الحياة الروحية تتركز كلها في عبارة ( لتكن مشيئتك ) .
سواء ما يريده لك أولاً في تصريف أمور حياتك ، أو لتكن مشيئتك من جهة أوامر الله و وصاياه . و ليس كالمرأة الحائض أو النفساء ، التي تتذمر علي وصية الكتاب في منعها من دخول الكنيسة و من التناول ...
اقبل مشيئة الرب ، لكي تأخذ بركة هذا القبول ، و تنمو في حياة التسليم .
و لا تتكدر بسبب شئ ، بل ليملك السلام علي قلبك ... و ليس فقط تقبل مشيئته بالرضي ، بل بالأكثر بالشكر و الفرح . و نحن في حياة التسليم لمشيئة الله ، نقول للرب مراراً كل يوم في صلاة الشكر " نشكرك علي كل حال و من أجل كل حال و في كل حال " .
و أنت حينما تقول هذا ، قله من قلبك ، و ليس بلسانك فقط .
إن الإنسان الضعيف في الإيمان ، أي حادث يؤلمه ، ويزعزع ثقته في الله ، و يتذمر علي الله ، و يصعب عليه أن يقول في صلاته من قلبه : لتكن مشيئتك ... إن الكنيسة المملوءة بالإيمان ، التي تعودت قبول مشيئة الله حتى إن مات أعز و أطيب إبن أو ابنة لها ، تستقبل جثمانه في الكنيسة بصلاة الشكر ... إن حياة التسليم تمنح القلب السلام و الهدوء ...
الذي تستعبده شهوات أو رغبات معينة ، إذا اصطدمت مشيئة الله برغباته ، يتضايق .
لماذا ؟ لأنه لا يريد سوي رغباته ، يسعي إليها و يحرص عليها . و هو مستعد أن يطيع الله داخل رغباته و ليس خارجها .. ! إنه لا يريد أن يخضع لمشيئة الله ، بل يريد أن تخضع مشيئة الله لرغباته ، و ينفذ له الله ما يريده هو ، و إلا تسوء علاقته مع الله ... و لذلك فإن الذين يحيون حياة الزهد ، سهل عليهم أن يقولوا لله : لتكن مشيئتك أنت . و إن حدث لنا خطر من مشيئة الناس الخاطئة ، فنحن نثق أن مشيئتك الصالحة سوف تتدخل و تبطل مشيئتهم . لأن الأمور كلها في يديك ، أنت يا ضابط الكل ، و ليس في أيدي الناس ... و لأن صلوات كثيرة ترتفع إليك لتنقذنا من مشيئات الناس لتكن مشيئتك . أنت وحدك المدبر و صاحب الأمر و الكل في يديك و تحت مشيئتك .
لتكن مشيئتك يا رب ، منفذة علي الأرض ، كما هي منفذة من الملائكة و أرواح القديسين في السماء . و لتصبح هذه الأرض كأنها سماء ، و سكانها كأنهم ملائكة ، و لتصبح الحياة روحانية توافق مشيئة الله في السماء .. لها علي الأقل أربع صفات .
منفذة بكل دقة ، و بلا جدال ، و بسرعة و بلا إبطاء ، و علي الدوام .
فهل أنت هكذا تفعل بالنسبة لوصايا الله . و هل تنفذها علي الدوام بكل دقة .. أم تترك مشيئة الله حيناً .. و تنفذ مشيئتك الخاصة أو مشيئات الناس ؟ و هل تنفذ أو تقبل مشيئة الله في إيمان و ثقة .. كالملائكة .. أم تحتج و تتذمر .. أم تجادل ، أم تؤجل ؟ نذورك مثلاً و عشورك ، هل تقدمها بلا إبطاء ، أم تؤجل و تتأخر ، ثم تساوي و تحاول أن تغير . و التوبة أيضاً ، هل تنفذ مشيئة الله فيها بسرعة ، أم تؤجل و تتراخى .. ؟ و هكذا في باقي وسائط النعمة ... إن مشيئة الله منفذة بكل دقة ليس في السماء فقط ..
إنما مشيئة الله منفذة علي الأرض أيضاً بكل دقة من الطبيعة " باستثناء الإنسان " .
كل القوانين التي وضعها الله للطبيعة تسير حسناً بلا إختلال . لأن الطبيعة لا تفكر ، و إنما تنفذ . أنظروا في قصة يونان النبي مثلاً : أمر الله البحر و الأمواج بضرب السفينة و نفذ أمره الإلهي بكل سرعة و دقة . أمر حوتاً عظيماً أن يبتلع يونان .. ففعل و أمره أن يلفظه سليماً فلفظه ... أمر الشمس و الرياح أن تضربا اليقطينة فيبست .. و أن تضربا يونان فذبل . الطبيعة في قصة يونان كانت منفذة تماماً لمشيئة الله. أما الإنسان المتمتع بالحرية و التفكير .. فلم ينفذ . ليت يونان كان منفذاً لمشيئة الله ، كما هي منفذة علي الأرض من الطبيعة و ليس كما هي منفذة في السماء ، إن كان لم يصل إلي ذلك المستوي
عبارة " كما في السماء ، كذلك علي الأرض " يمكن تطبيقها أيضاً علي الطلبتين السابقتين .
ويكون لها فيهما معني جميل . أي ليتقدس إسمك يا رب ، كما هو مقدس في السماء ، كذلك ليكن مقدساً علي الأرض . و ليأت ملكوتك علي الأرض . كما هو في السماء أيضاً ، فتملك علي الأرض كما تملك في السماء تماماً ، لتكن الأرض سماء أو كالسماء في تقديس إسمك ، و في الخضوع لملكوتك ، و في تنفيذ مشيئتك .
و لتكن الكنيسة سماء لك .
كما أن السماء هي كرسي الله ، لتكن الكنيسة كذلك مثل السماء تماماً ، و كما في السماء أنوار ، و الكنيسة كذلك مملوءة بالأنوار ، بل هي نور العالم و كما في السماء ملائكة ، خدام الكنيسة أيضاً هم ملائكتها ، كما قيل عن ملائكة الكنائس السبع ( رؤ2 ) ، و يلبسون في الخدمة ثياباً بيضاء كالملائكة . و كما أن السماء نقية ، هكذا " ببيتك ينبغي التقديس يا رب كل الأيام " ( مز 94 ) . و كما أن السماء مسكن الله ، كذلك الكنيسة هي بيت الله . هي كأورشليم السمائية " مسكن الله مع الناس " . تنظر إليها فتقول : كما في السماء ، كذلك علي الأرض " . الكنيسة هي المكان الذي يتقدس فيه إسمك ، و يأتي فيه ملكوتك ، و تنفذ فيه مشيئتك ، كما في السماء . لذلك كان الخطاة يعزلون من الكنيسة خارج المجمع ، لكي تبقي الكنيسة مجموعة من القديسين .. كالسماء
و لكن لكي تصبح الكنيسة سماء ، أعطنا يا رب خبزنا الروحي .
إن أعطيتنا هذا الخبز الروحي .. ستنمو أرواحنا و تقوي .. و تستطيع أن تنفذ مشيئتك .. كما في السماء كذلك علي الأرض . و إن نفذنا مشيئتك هكذا .. يكون قد أتي ملكوتك الروحي الذي نطلبه في صلواتنا . و إن أتي ملكوتك بهذه الطريقة .. فطبيعي أن إسمك سيتقدس علي الأرض بانتشار الإيمان و البر في هذا الملكوت الروحي ... إذن هذه الطلبات الأربع مترابطة تماماً ببعضها البعض . كل واحدة منها توصل إلي الأخرى . و هذا لا يتأتي الإ إذا كان المقصود بالخبز .. الخبز الروحي ...
اختلفت الترجمات في هذه الطلبة بالذات ...
· البعض يقول : خبزنا كفافنا أعطنا اليوم .
· و البعض يقول : خبزنا الذي للغد ، أعطنا اليوم .
· و البعض يقول : خبزنا اليومي ، كما في الترجمة الإنجليزية .
Give us this day our daily bread.
· و البعض يقول : خبزنا الجوهري ، أو خبزنا الفائق للطبيعة ، كما في كتاب أوريجانوس عن الصلاة الربية ...
و أنا لا أريد أن نفقد تأملنا الروحي في هذه الصلاة الربية ، عن طريق الصراع بين الترجمات و أيها أصح !
إنما أحب أن أقول – أياً كانت الترجمة . إن المقصود بالخبز في الصلاة الربية ، هو الخبز الروحي ، و ليس الخبز المادي .
فما هي الأدلة التي تثبت أن الخبز الروحي هو المقصود ؟
1 – هذا أمر طبيعي يتفق مع تعليم السيد المسيح .. الذي لما جاع أخيراً بعد أن صام أربعين يوماً .. و قدم له الشيطان تجربة الخبز المادي ... رفضها و أجاب : " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان .. بل بكل كلمة تخرج من فم الله " ( مت 44 : 4 ) ( تث 8 : 3 ) .
* * *
2 – و هو الذي أوصانا في العظة علي الجبل " لا تهتموا قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب .. فإن هذه كلها تطلبها الأمم " ( مت 6 : 31 ، 32 ) . فهل يعود و يعلمنا في الصلاة الربية ، أن نهتم بهذه التي تطلبها الأمم " ؟ إنه يقول " اطلبوا أولاً ملكوت الله و بره " و لا يقول : ثم بعد ذلك اطلبوا هذه الأمور المادية . حاشا ، بل يقول " و هذه كلها تزاد لكم " " لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلي هذه كلها " ( مت 6 : 32 ، 33 ) . دون أن تطلبوا ...
* * *
3 – و يقول أيضاً " اعملوا لا للطعام البائد ، بل الطعام الباقي للحياة الأبدية " ( يو 6 : 27 ) . فهل بعد هذا يأمرنا أن نصلي من أجل هذا الطعام البائد ؟ لا شك إذن أنه يقصد بالخبز الطعام الباقي للحياة الأبدية " . أي للغد .
* * *
4 – ثم هل من المعقول أن تكون أول طلبة خاصة بنا ، هي الخبز المادي ؟! المعروف إن الطلبات الثلاث الأولي خاصة بالله " ليتقدس إسمك ، ليأت ملكوتك ، لتكن مشيئتك .. " ثم بعد ذلك أربع طلبات خاصة بنا . هل من المعقول أن تكون أولي هذه الطلبات هي الخبز المادي ؟ هل يعلمنا الرب أن نطلب هذا الخبز قبل أن نطلب مغفرة خطايانا ، و قبل قولنا : لا تدخلنا التجارب ، لكن نجنا من الشرير ؟! هل الخبز المادي أهم من المغفرة الخطايا ، و أهم من الخلاص من الشرير ؟!
* * *
5 – ثم هل من المعقول أن يطلب الرب منا أن نكرر طلبة الخبز المادي كلما صلينا ؟! لأنه يقول " متي صليتم فقولوا هكذا : أبانا الذي في السموات " ( لو 11 : 2 ) . فهل إذا كررنا هذه الصلاة الربية عديدة في اليوم الواحد، نكرر أيضاً الطلبة من أجل الخبز المادي مرات عديدة كل يوم ؟! إن هذا لا يتفق مع التعليم الروحي الذي للسيد المسيح حيث يقول " لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون و بما تشربون " ( مت 6 : 25 ) . ضارباً لنا مثلاً بطيور السماء ...
* * *
6 – و يمكن تأكيد هذا أيضاً من فحص الكلمة اليونانية الخاصة بهذه الطلبة و هي إيبي أوسيوس .
الكلمة اليونانية تتسع لثلاث معان هي الجوهري أو الجوهري جداً ، أو الذي للغد ، أو الكفاف .
فلماذا نحصرها في معني الكفاف ؟ و لماذا نأخذ عبارة ( الكفاف ) علي أنها تعني الخبز المادي . إن كان المقصود الخبز الجوهري من كلمة ( أوسيا ) اليونانية بمعني جوهر ، فلا يمكن أبداً أن يكون معناها الخبز المادي و إن كانت ترجمة الكلمة اليونانية ( الذي للغد ) كما في الترجمات القبطية ، فالمقصود هو الخبز الذي للحياة الأبدية التي هي الغد بمعناه الواسع .
و حتى إن ترجمت بالكفاف ، فلا يمكن أن تعني الخبز الجسدي .
أنها هي من الروحية - إن ترجمناها هكذا ، أوصلاها البعض هكذا - إننا نريد منك يا أبانا السماوي أن تعطينا خبزنا الروحي الذي يكفينا .
لا ينقص . ففتح في الفتور . ولا يزيد ، فنقع في الغرور ،
نريد ما يكفينا لقيام حياتنا الروحية ولا نريد أزيد ، فقد الرسول ألا نرتثي فوق ما ينبغي فوق ما ينبغي ( رو (12: 3) . ولا نريد أزيد حتى لا نقع في المجد الباطل أو الكبرياء ،أو يضربنا العدو بضربة يمينية . إذن عبارة الكفاف . يمكن أن تقال أيضاً بمفهوم روحي . خاص بالخبز الروحي .
أنا لا أريد أن أدخل في بحث لغوي أو جدل لغوي ، فحديثي معكم حديث روحي خالص . . وكل ما أريده لكم في صلواتكم أن تقصدوا الخبز الروحي الذي للحياة الأبدية .
♣ ♣ ♣
فماذا هو هذا الخبز ؟
هو كلمة الله ، كما قال السيد المسيح ( مت 4: 4)، وكما في سفر التثنية ( 8: 3) فكلام اله غذاء القلوب . والخبز الروحي أيضاً هو سر الإفخارستيا هو السرائر المقدسة كما شرح الرب في إنجيل يوحنا " أنا هو الخبز الحي النازل من السماء ( يو 6: 32 -51) . إنه خبز الحياة . غذاؤك هو الله نفسه " ذوقوا وأنظروا ما اطيب الرب ". وغذاؤك الروحي هو كل ما يعذيك روحياً ، من صلاة وتأمل ، اجتماعات روحية ، وألحان وترانيم .. وقد تتغذي أيضاً بالحب الإلهي وبالفضيلة .
وحينما تقول للرب " أعطنا " ماذا تقصد بهذه العبارة ؟
تقصد أنك تطلب غذاءك الروحي من الله نفسه ، مصدر النعم كلها ، والذي يعرف ما تحتاجه . وإن كان الله يعطيك ، فلا تعطل عطيته ، بالتراخي في تناول غذائه .
اهتم بغذاء روحك ، كما تهتم بغذاء جسدك ، بل أكثر .
أنت تعطي جسدك طعاماً كل يوم بوجبات متعددة وبكميات كافية ، ويزداد حبها لله . إن لم يأخذ الجسد غذاءه يمرض ويضعف . وهكذا الروح أيضاً . تذكر هذا كلما تصلي . ومرض الروح هو أولاً الفتور . فإن لم يجد علاجاً ، تضعف مقاومة الروح للخطية ، ويسهل سقوطها . أما الغذاء الروحي فيعطي تقويه للروح كما أن غذاء الجسد يعطي قوه للجسد . وكما ان الغذاء الذي تقدمه للجسد ، ينبغي أن يكون سليماً صنف جيد ، كذلك الغذاء الذي تقدمه للروح . كلما كانت القراءات و التأملات عميقة ومن نبع صاف ، هكذا تكون فائدتها للروح … اهتم إذن بغذائك الروحي . أسمع إليه بكل نشاط ، وقدمه لنفسك بكل اهتمام . ولا تقصر في صلاتك علي عبارة " خبزنا … أعطانا " بينما تهمل نفسك ، ولا تقدم لها غذاء أنت تقدم الغذاء ، والرب يستجيب لصلاتك ، ويعطي لهذا الغذاء الروحي فاعليته في قلبك وفي إرادتك
علمنا الرب أن نقول في الصلاة الربية " اغفر لنا خطايانا ، كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا "( مت 5: 12) . والواقع أن هذه الطلبة تحوي الكثير من التأملات ، منها :
عبارة " اغفر لنا خطايانا "" تحوي اعترافا بأننا خطاة .
وفي بعض الترجمات " اترك لنا ما علينا " أو اترك لنا ديوننا " والقديس أوغسطينوس يقول :" إننا نطلب أن يغفر لنا ما علينا لأننا مديونون " .. كان القديس أوغسطينوس أسقفاً ، ولكنه أيضاً كان يصلي هذه الصلاة . والقديس يوحنا الرسول يؤكد علي هذا المعني ويقول :
" أن قلنا إننا بلا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا " (1يو 1:
.
كذلك القديس يعقوب الرسول يقول بالمثل " أننا في أشياء كثيرة نعثر جميعاً "(يع 3: 2) . والقديس بولس يدعو نفسه "أول الخطاة " والكنيسة تعلمنا في صلواتها ، أنه ليس أحد بلا خطية ، وإن كانت حياته يوماً واحداً علي الأرض .. لذلك نحن نقف للصلاة نقول للرب " اغفر لنا " .. فهكذا علمنا …
إن كان أحد بلا خطية فلا داعي لأن يقول هذه الطلبة !
ولكن الكتاب المقدس سجل لنا خطايا وقع فيها الآباء والأنبياء ، قال إن الخطية طرحت كثيرين جرحي وكل قتلاها أقوياء " هذه الطلبة إذن ، تعطينا فكرة أننا محتاجون إلي الخلاص كل يوم .. ولعل البعض يسأل هنا :
ما معني الخلاص إذن والتجديد اللذين نلناهما في المعمودية ؟
ما معني عبارة " من آمن واعتمد خلص "( مر 16: 16) . وما معني " جدة الحياة " وصلب الإنسان العتيق !" ( رو 6: 4، 6) ؟
وما معني قول الرسول " لأن جميعكم الذين اعتمدتم للمسيح ، قد لبستم المسيح "( غل 3: 27)؟ حقاً إننا نلنا كل هذا في المعمودية ، ولكن هناك ملاحظة هامة وهي :
لقد اخذنا في المعمودية تجديداً ولكن لم نأخذ فيها عصمة .
فلا يوجد إنسان معصوم ، بل ما اعجب قول يعقوب الرسول عن القديس العظيم إيليا النبي " أيليا كان إنساناً تحت الألام مثلنا " ( يع 5: 17) . بعدم العصمة قد نسقط ، وبالنعمة وعمل التوبة نقوم ، ونقول للرب عن سقطاتنا " أغفر لنا " أننا تعمدنا ، ولكننا ما زلنا مديونين . ليس لأن شيئاً قد بقي ولم يغفر لنا في المعمودية ! ولكن لأننا في حياتنا نعمل كل ما يحتاج إلي غفران يومي .. حقاً إنه في المعمودية قد غفرت لنا خطايانا ولكننا في كل يوم نخطئ خطايا جديدة تحتاج إلي مغفرة .
أن الذين اعتمدوا ، وفي الحال فارقوا هذه الحياة ، هؤلاء قد صعدوا من جرن المعمودية بلا دين عليهم .
أما الذين اعتمدوا ، ومازالوا موجودين في هذه الحياة ، فإنهم يرتكبون نجاسات بسبب ضعفهم المائل . نعم في كل يوم نخطئ إلي الله ، مهما كنا ومهما ارتفعنا . لذلك فإننا نقول لله في كل يوم : اغفر لنا ما علينا .. نعم بسبب الخطايا اليومية ، ومن الضروري أن نقول في هذه الصلاة : أغفر لنا
* * *
أن الذي ترتفع نفسه فوق هذه الطلبة ، يكون محارباً بالبر الذاتي .
وذلك لأننا مديونان أمام الله . وفي قصة المرأة التي غسلت قدمي المسيح بدموعها ومسحتها بشعر رأسها ، قال الرب لسمعان الفريسي . " إنسان كان له مديونان ، علي الواحد خمسمائة دينار ، وعلي الأخر خمسون ، وإذا لم يكن لهما ما يوفيان ، سامحهما جميعاً " ( لو 7: 41) . وبنفس المعني ، ذكر السيد المسيح مثل العبد المديون المدان الذي سامحه سيده إذ لم يكن له ما يوفيه ( مت 18: 27) . كل منا يقف أمام الله مديوناً ، عاجزاً عن وفاء ديونه ، لأن أجرة الخطية هي موت ، ولا وفاء إلا بتلك الفدية التي قدمت عنا علي الصليب . إذن في قولنا " اغفر لنا " نعني طلبنا بأن تمحي هذه الخطايا بالدم الكريم ، ويحملها الرب عنا …
طلبة المغفرة ينبغي أن يقولها المصلي من كل قلبه
لأنه في وقت السقوط ، أو في ساعات التوبة ، قد يصلي الإنسان من قلبه طالباً مغفرة خطاياه . أما في أوقات العزاء الروحي والنعمة وفي أوقات الخدمة الناجحة والعمل لأجل الملكوت … ربما في هذه كلها ، لا يشعر المصلي بخطاياه ولا يذكرها ، لأنه لا يتذكرها ، البر الحالي الذي يعيش فيه ، ينسيه الأخطاء التي وقع فيها ..! ولذلك فلكي لا يقع في البر الذاتي ، ويظن في نفسه أنه شئ وضع له الرب أن يصلي هذه الصلاة أنه خاطئ …
لذلك أجلس وحاسب نفسك …
تذكر خطاياك حتي تطلب من أجلها توبة . واذكر ان بولس الرسول قال " أنا الذي لست مستحقاً أن ادعي رسولاً ، لأني اضطهدت كنيسة الله " مع أن ذلك كان في الماضي ، فعله لما كان شاول الطرسوسي .. ومع ذلك كانت خطيته أمامه في كل حين ، تجلب له الاستحقاق والشعور بعدم الاستحقاق ، فيقول كنت من قبل " مفترياً ".. ولم ينسها . وداود النبي أيضاً بكي علي خطاياه حتي بلل فراشه بدموعه ، كل ذلك بعد أن أخذ وعداً بالمغفرة ، لأنه قبل ذلك ما كان يدري تماماً ما هو فيه إلي أن نبهه ناثان … وما أجمل قول القديس الأنبا انطونيوس في تذكر الخطايا :
إن ذكرنا خطايانا ينساها لنا الله . وإن نسينا خطايانا يذكرها لنا الله …
* * *
فما أعمق ذلك الإنسان الروحي ، الذي مهما نال من مغفرة وخلاص ، لا ينسي مطلقاً أنه خاطئ ، ليس فقط بالنسبة إلي القديم ، وإنما بالنسبة إلي الحاضر أيضاً . لأنه بهذا الأمر قد تبرر العشار دون الفريسي . الفريسي لم يقل مطلقاً في صلاته " اغفر لنا " . بل قال ذلك العشار في طلبته المنسحقة . وقد ضرب الرب لنا هذا المثل حتي يكون لنا أنموذجاً في حياتنا الروحية .
بل مبارك من يشعر أنه أكثر خطية من غيره .
يري دائماً الخشبة التي في عينه ، قبل أن يتأمل القذي الذي في عين أخيه .. لذلك فإن الذي يصلي قائلاً " أغفر لنا " ، لا يمكن أن يقع في إدانه غيره ، أن كان يطلب هذه الطلبة من عمق قلبه … إنه لا يدين غيره ، إنما يطلب لغيره المغفرة كما يطلبها لنفسه . وبنفس الوضع لا يطلب النقمة لمن أساء إليه ، بل المغفرة … الإنسان الروحي يشعر أنه أكثر خطية من غيرة . علي الأقل لأن الذي يعرف أكثر يطالب بأكثر … ربما غيره أخطأ عن جهل ، أما هو فعن معرفه . ربما غيره أخطأ عن ضعف ، أما هو فبلا عذر .
* * *
نلاحظ هنا أن المصلي لا يبرر دائما إنما يطلب المغفرة .
إن أمنا حواء لم تقل " اغفر لنا " ، ولا قال أبونا آدم هذه الطلبة ، بل حاول كل منهما أن يلتمس عذراً لنفسه ، أو يلقي بالمسئولية علي غيره أنما المصلي هنا لا يبرر ذاته . إنه يعترف تماما أنه مخطئ وأن ما يلزمه ليس العذار ، وإنما المغفرة . لذلك فهو يطلبها دون أن يبرز ذاته ، أو ينفي المسئولية عن نفسه …
* * *
ونحن نطلب المغفرة عن كل الخطايا ، سواء التي أخطأنا بها غلي الله ، أو إلي أخوتنا من البشر .
فالخطية موجهة أصلاً إلي الله .
والمرتل يقول في المزمور الخمسين " لك وحدك أخطأت والشر قدامك صنعت " إن كل خطية هي عصيان لله ، وعدم محبة له ، وكسر لوصيته حتي التي طالبنا فيها بمحبة القريب . فحينما نخطئ إلي البشر نكون قد أخطأنا إلي الله أيضاً . ولذلك فنحن نطلب منه المغفرة وليس منهم فقط . ونحن نطلب منه المغفرة وليس منهم فقط . ونحن بهذه الطلبة تتذكر صفه في الله وهي أنه غفور .
لولا أن الله غفور ما كنا نطلب منه المغفرة …
إننا نذكر وعوده التي قال فيها " من يقبل إلي لا أخرجه خارجاً " ونتذكر وعوده التي قال فيها " من يقبل إلي لا أخرجه خارجاً ". ونتذكر وعوده في سفر أشعياء حينما قال " هلم نتحاجج يقول الرب . إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج .." ( أش 1: 18) . بل نحن واقفون أننا حينما نطلب المغفرة سنبيض أكثر من الثلج ( مز 50) ونذكر قول دواد النبي عن الرب : " لم يصنع معنا حسب خطايانا ، ولم يجازنا حسب آثامنا . بل مثل ارتفاع السموات عن الأرض ، قويت رحمته علي خائفيه . كعبد المشرق عن المغرب أبعد معاصينا . لأنه يعرف جبلتنا . يذكر أننا تراب نحن "( مز 103) .
ولكن كيف يغفر الرب ؟ هنا توجد شروط:
منها شرط التوبة وشرط المصالحة والمغفرة للمسيئين.
إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون ( لو 13: 5) .
الله مستعد أن يغفر ، ولكنه لا يغفر لغير التائبين . إذن التوبة شرط . فإن كانت التوبة هي بداية حياة جديدا مع الله ، فكيف نجمع بين الله و الخطية ؟ و الكتاب يقول " لا شركة بين النور والظلمة " التوبة هي مصالحة مع الله . وهذه المصالحة لازمه المغفرة . وليست التوبة هي مجرد ترك الخطية بالفعل ، ولا مجرد تركها تغضباً بالفكر وإنما كما يقول القديسون :
كمال التوبة هو كراهية الخطية .
إن وصل الإنسان إلي حاله كراهية الخطية ، فحينئذ " لا يستطيع أن يخطئ " ولا تكون الخطية موافقه لطبيعته في حاله التوبة . ولكن قد يقول إنسان إنه تائب ، بينما تدل أفعاله علي غير ذلك ، لهذا فإن الكتاب المقدس يقول :
" اصنعوا ثمارا تليق بالتوبة ( مت 3:
.
فإن قلت في صلاتك " أغفر لنا "أسأل نفسك في الداخل : هل أنا تائب ؟ هل أنا اصنع ثماراً تليق بالتوبة ؟ هل هذه الثمار ظاهرة في حياتي وفي سلوكي وتصرفاتي وفي صلحي العملي مع الله ؟ أم أنا أطلب المغفرة بدون هذا كله ؟ كأنك إذن حينما تصلي وتقول " ، إنما تقول ضمناً : أقبل يارب توبتي ، أو أمنحني يارب نعمة بها أتوب ، أو توبني يارب فأتوب ".
* * *
وما علامة هذه التوبة في حياتك ؟ أول علامة هي :
ويقول الرسول في ذلك : إن قلنا أنه ليس لنا خطية ، نضل أنفسنا وليس الحق فينا . إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتي يغفر لنا خطايا "( 1يو 1: 8، 9) . إن الخطية التي تعترف بها ، هي التي تطلب عنها مغفرة ، أما المواقف التي تري نفسك فيها غير مخطئ ، أو أن غيرك هو المخطئ ، فهذه لا تدخل في ذهنك ولا في قلبك ، أثناء قولك " اغفر لنا ". إن اعترف بمرضك ، أما إن قلت إنك غير مريض فإن " الإصحاح لا يحتاجون إلي طبيب ، بل المرضي " . والرب يقول لم آت لأدعوا أبرارا بل خطاه إلي التوبة
والذي يعترف بينه وبين نفسه لأنه خاطئ ومخطئ يستطيع أن يعترف أيضاً علي الأب الكاهن وأيضاً علي الأب الكاهن وأيضاً علي الأب السماوي .
في عبارة " اغفر لنا " تذكر جميع خطاياك ، واعترف بها امام الله ثم اعترف بها أمام وكيله علي الأرض ( تي 1: 7) ليمنحك حلاً ، ويأخذ من الدم الكريم ، لتمحي به خطاياك …
ومن ثمار التوبة أيضاً في حياتك : الاستحقاق والندم علي الخطية . إنهما ليسا ثمناً للخطية ، أنما علامة علي التوبة التي هي شرط للمغفرة تتم بالكفارة العظمي ، بالدم الطاهر الكريم ولكن هذا الدم لا يستحق توال الفداء به إلا المؤمن التائبون . واعرف أن المغفرة . حتى بعد أن تتم ، لا تمنح الانسحاق والندم والشعور بعدم الاستحقاق ، فداود النبي بلل فراشه بدموعه ، وعاش في حياة التوبة و البكاء والاعتراف بخطيئته ، ، بعد أن غفرها الرب له . وبولس الرسول ، بعد أن نال المغفرة وبعد أن ارتفع درجات في حياة الروح ظل يقول " أنا الذي " أنا الذي لست مستحقاً أن ادعي رسولاً ،
لأني اضطهدت كنيسة الله "." أنا الذي كنت من قبل مفترياً " ولم يقل أن ذلك كله فعله شاول الطروسي ، شاول قد مات مع المسيح و الموجود الآن هو بولس الذي ارتفع إلي السماء الثالثة .. كلا ، بل قال : أنا الذي لست مستحقاً أن أدعي رسولاً
بالإيمان وبالتوبة بالاعتراف تتقدم قائلاً ( اغفر لنا )..
وحاذر من أن تطلب المغفرة لغيرك دون أن تطلب المغفرة لنفسك . كما فعل أيوب الصديق الذي كان يقدم محرقات عن بنيه فقط قائلاً " ربما أخطأت بني إلي الله "( أي 1) دون أن يقدم محرقات عن نفسه …
* * *
هل القديسون - كالخطاه - يقولون معهم (اغفر لنا )؟
نعم . الكل يقول هذه الطلبه … واول من قالها رسل المسيح القديسون . والقديس كلما يتأمل الكمال المطلوب منه ، وصورة الله التي ينبغي أن تكون له ، يشعر في أعماقه أنه خاطئ .. عن إيمان واقتناع … حتى أن فعل القديسون كل ما أمرهم به الرب ، يقولون " إننا عبيد بطالون ". إذن فلنطلب كل حين أن يغفر الرب لنا .
ليس الماضي فقط وإنما خطايا الحاضر أيضاً …
فنحن في كل حين نخطئ ، وليست الخطية مجرد ماضي تركناه … إن اشعياء النبي ، لما رأي عرش الله ، وحوله السارافيم يسبحون ، قال " ويل لي أني هلكت ، لأني إنسان نجس الشفتين " ( أش 6) . فماذا ترانا نقول نحن ؟
نقول " اغفر لنا " …
إننا نطلب من الله المغفرة . والله من جانبه مستعد أن يغفر ولكن المهم : هل نحن مستعدون من جانبنا لقبول هذه المغفرة ؟ هناك شروط : فما هي ؟ نقول في الصلاة " اغفر لنا .. كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا ".
إذن مغفرتنا للآخرين شرط .
أو هي اتفاق بيننا وبين الله . ونلاحظ أن الله اهتم بهذا الشرط جداً . فهذه الطلبة هي الوحيدة من بين الطلبات السبع في الصلاة الربانية التي علق عليها الوحي الإلهي . وتكلم الرب عنها بعد أن علمنا إياها … ففي الإنجيل لمعلمنا متي البشير ، يقول الرب بعد هذه الصلاة مباشرة : فإنه أن غفرتم للناس زلاتهم ، يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي . وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم " ( مت 6: 14،15) . ويوضح هذا في الأنجيل لمعلمنا مرقس الرسول ، فيقول : " ومتي وقفتم تصلون ، فاغفروا إن كان لكم علي أحد شئ ، لكي يغفر لكم أيضاً أبوكم الذي في السموات زلاتكم ، وأن لم تغفروا أنتم لا يغفر أبوكم الذي في السموات أيضاً زلاتكم " ( مر 11: 25، 26) . ونفس المعني يتكرر في الإنجيل لمعلمنا لوقا الرسول ، فيقول الرب " لنه بنفس الكيل الذي به تكليون ، يكال لكم " ( لو 6: 37، 38). إذن أن أردنا أن يغفرالرب لنا ، علينا أن نغفر نحن أيضاً لمن أذنب إلينا مهما كانت إساءاته ، ومهما كثرت ، حتي إلي سبع مرات سبعين مرة في اليوم ، كما اجاب الرب تلميذه بطرس الرسول .
* * *
وأن لم نغفر فإننا باب المغفرة أمام أنفسنا ونكون نحن الخاسرين …
من تلقاء نفسك ، أغفر ، وبالأكثر إن آتاك المذنب إليك معتذراً ، لا تحقق معه ، وأنما اغفر له . تذكر كيف أن السيد المسيح وهو علي الصليب غفر لصالبيه وقدم عنهم للأب عذراً ، فقال " يا أبتاه أغفر لهم ، لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون". وتذكر أن القديس اسطفانوس أول الشمامسة والشهداء . فيما كان اليهود يرجمونه ظلماً ، صلي من أجلهم قائلاً " يارب ، لا تقم لهم هذه الخطية "( أع 7: 60) تنازل عن حقك تجاه الناس ، لكي يتنازل الرب عن حقويه من جهتك، ولكي تكون لك داله في الصلاة حينما تقول " كما نغفر نحن أيضاً ". وكذلك لكي تكون بهذا الأسلوب الروحي ، صورة من أبيك السماوي وأبنا حقيقيا مشابهاً لأبيه في مغفرته ، حسبما يبلغ مستواك …
فأنت حينما تغفر ، إنما تعطي المغفرة لنفسك .
أسأل نفسك إذن هذا السؤال : حينما تعطي مغفرة للآخرين هل أنت تعطي مغفرة ، أم أنت تأخذ مغفرة ! لا شك أنك تعطي وتأخذ ولكن إذا كنت لا تغفر ، فإنك تمنع المغفرة عن نفسك . لأن الرب يقول " " إن لم تغفروا للناس زلاتهم لكم أبوكم السماوي " إذن فأنت تغلق باب المغفرة علي نفسك بعدم مغفرتك لغيرك …
يقول القديس اوغسطينوس : والشخص الذي لا تغفر له يستطيع أن يأخذ المغفرة من الله مباشرة .
إنه يأتي ويقول لك " أخطأت إليك ، سامحني ، فترض فيذهب لي الله ويقول له " اغفر لي أنت . أقع في يديك ولا أقع في يد إنسان ، لأن مراحمك واسعه " ( 2صم 24: 14) . فيغفر له الله ، لأن الله في يده سلطان المغفرة . أما أنت فلا تخرج مبرراً ، لأن الله لا يغفر لك بسبب عدم مغفرتك لأخيك .
وهكذا يخرج هو محاللاً ، وتخرج أنت مربوطاً .
* * *
وبهذا الشكل تؤذي أنت نفسك ، أكثر مما يؤذيك عدوك يقول القديس أوغسطينوس " أن عدوك لا يستطيع بأي حال أن يؤذيك بقسوته ، كما تؤذي أنت نفسك إن لم تحبه ". " لأنه قد يالف عقارك أو قطعانك أو بيتك .. أو علي الأكثر جسدك ، أن اعطي له مثل هذا السلطان .. ولكن هل يستطيع أن يتلف نفسك ؟! كما تستطيع أنت أن تتلف نفسك !!" .
عدوك قد يضرك في أشياء خارج نفسك . ولكنك أنت تضر نفسك إن جعلتها مجالاً للبغضة و الكراهية .
إنك لم تضر نفسك بعدم التسامح . ولا يكون عدوك هو الذي أضرك . إنما أنت الذي تضر نفسك .
* * *
وإذا لم تغفر ، هل تظن أن الله يعتمد عدم مغفرتك ؟!
فإن بقيت غير راض عمن أساء إليك ، أو إن دعوت عليه بالشر ، هب تظن أن الله يقبل ذلك ؟! كلا بلا شك . ولكنك إن أحسنت إليه ، فإنك تنفع نفسك .. استمع إلي قول الرب في عظته علي الجبل ، حيث يقول :
" بالكيل الذي به تكيلون ، يكال لكم " ( مت 7: 2) .
فكما تعطي الناس ، الله يعطيك . والقياس مع الفارق . إن أعطيت الناس مغفرة ، يعطيك مغفرة . وإن عاملتهم بقسوة ، يقول لك إنك لا تستحق المغفرة . ولا تظن أنك إن عاملت غيرك بالقسوة ، يعاملك الله باللين . انظر القصة التي رواها الرب في الإنجيل : قال " يشبه ملكوت السموات ، إنساناً ملكاً أراد أن يحاسب عبيده . فلما ابتدأ في المحاسبة ، قدم إليه واحد مديون بعشرة آلاف وزنه . وإذ لم يكن له ما يوفي ، امر سيده أن يباع هو وامرأته وأولاده وكل ماله ويوفي الدين . فخر العبد وسجد له قائلاً : يا سيد تمهل علي فأوفيك الجميع . فتحنن سيد ذاك العبد ،وأطلقه وترك الدين . ولما خرج ذلك العبد ، وجد واحدا من العبيد رفقائه كان مديوناً له بمائه دينار ، فأمسكه وأخذ يعنفه قائلاً أوفيني ما عليك فخر العبد رفيقه علي قدميه وطلب إليه قائلاً تمهل علي فأوفيك الجميع . فلم يرد ، بل مضي وألقاه في السجن حتي يوفي الدين . فلما رأي العبيد رفقاؤه ما كان ، حزنوا جداً واتوا وقصوا علي سيدهم كل ما جري ، فدعاه حينئذ سيده وقال له أيها العبد الشرير ، كل ذلك الدين تركته لك لأنك طلبت إلي . أفما كان ينبغي أنك أيضاً ترحم رفيقك كما رحمتك . وغضب سيده وسلمه للمعذبين ، حتي يوفي كل ما كان له عليه "( مت 18: 23- 34) . وختم الرب القصة قائلاً :
" فهكذا أبي السماوي يفعل بكم ، أن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته "( مت 18: 35) .
أنت يا أخي هو ذلك الشخص الذي ترك له الرب الدين الكبير الذي عليه ، ولم يطرحه إلي العذاب الأبدي . فأغفر إذن لأختك . أن كنت لا تريد السيد أن يغضب عليك . لأنه غفر لك أكثر بكثير مما ستغفره أنت لأخيك . علي الأقل أنت ستغفر لأخيك ما فعله معك ، أما الرب ، فقد غفر لك أكثر من هذا : خطايا الفكر ، ومشاعر القلب ، وكل ما ارتكبته ضد الله وضد الناس وضد نفسك ، ومشاعر القلب ، وكل ما ارتكبته ضد الله وضد الناس وضد نفسك . ونلاحظ أنه في المثل الذي راوه الرب عبارة خطيرة وهي :
إن السيد بعدما غفر للعبد كل ما عليه ، عاد وحاسبه علي كل الخطايا القديمة ، لأنه لم يغفر لأخيه .
أي أن المغفرة التي أخذها ، عاد ففقدها بسبب عدم مغفرته . هكذا إن لم تغفر لأخيك ، يسحب الله منك المغفرة التي نلتها من قبل .. أليست هذه مسأله خطيرة ينبغي أن تضعها في أعتبارك وستجد أنك تضر نفسك تماماً أن لم تغفر لأخيك .
وهنا تواجه ثلاث درجات في معاملتك لمن أساء إليك :
1 - أن تحتمل من أساء إليك ، ولا تغضب عليه .
2 - أن تغفر له من قلبك من الداخل .
3 - وأسمي من هذين الأمرين أن تحبه ، حسب الوصية " أحبوا أعداءكم ".
لأنه ما أسهل أن تقول له " سامحتك . ولكن أبعد عني . لا أريد إن أري وجهك فيما بعد "!! تدرب علي هذه الدرجات الثلاث . فإن وجدت محبة العدو صعبه ، علي الأقل اغفر له من كل قلبك . وإن وجدت هذه أيضاً صعبه ، فعلي الأقل احتمله ، ثم تدرج حتى تصل إلي المغفرة ثم المحبة .
* * *
ويقول القديس أوغسطينوس في ذلك :
" أن لم تغفر من تلقاء نفسك لمن أساء إليك ، فعلي الأقل إن توسل إليك أن تغفر له ، فينبغي أن تغفر ".
أعني إن قال لك " لقد أخطأت إليك . سامحني " . المفروض إذن أن تسامح . وإلا فأنك تصير إنساناً قاسي القلب . وحينئذ بأي وجه ستطلب من الله المغفرة فبما أخطأت به إليه ؟! لأنه إن كان صعباً عليك أن تغفر لعدوك في حال إساءته ، فعلي الأقل يسهل الأمر عليك ، وهو يعترف بخطيته أمامك ويطلب العفو … نقول هذا ، لن البعض حينما يأتي إليه المسيء قائلاً " أغفر لي " يبدأ معه تحقيقاً : لماذا فعلت وفعلت ؟ ويوبخ ويعنف ، بأسلوب إذلال ! حتى إن ذلك المسيء يقول في قلبه : ليتني ما ذهبت إليه أطلب منه المغفرة !!
وأعنف من هذا: شخص يسئ إلي غيره ويغضبه ، ويعرف أنه إنسان متدين ، وسيأتي للمصالحة قبل ذهابه إلي التناول . فلا يذهب إليه لكي يعتذر عما أساء به إليه ، بل ينتظر إلي أن يأتي المساء إليه ساعياً للمصالحة !!
بل يقول أكثر من هذا : لابد انه سيأتي ليصالحني . وحينئذ سوف ألقنه درسا يحتاج إليه . وأثبت له أنني كنت علي حق فيما أسأت به إليه ، ؟لأنه يستحق ذلك وأكثر . وأكون بهذا قد نفعته روحياً ! يا أخي ، فكر أنت في نفسك وفي منفعتك الروحية . وكن متواضعاً .
* * *
وأعرف أن الذي يسعي إلي المصالحة ، هو الذي ينال بركة المصالحة .
ولا تقل أمام الناس أو في داخل نفسك : كان بيني وبي فلان خلاف . ولكن الحمد لله قد اصطلحنا وانتهي الأمر نعم ، قد تم الصلح . ولكن عن طريق من ؟ عن طريقك أنت ، أم عن طريقه هو ؟ هل هو الذي جاء يطلب مصالحتك ، ويعتذر إليك ، ويدفع ثمن الصلح ، بانكسار قلبه ومذله نفسه ؟! وأنت وافقت علي ذلك وصفحت ! وتم الصلح .. إذن هو الذي نال بركة الصلح وليس أنت .. إذن في المصالحة اسأل نفسك : من قام بها ؟ وكيف ؟
* * *
أما أن جاء أخوك يعتذر إليك ، فقابلته بتحقيق وعنف . وظللت تثبت له أنه المسيء ، وأنت الذي تغفر ..!
ولم تجعل المصالحة تمر بسهولة ، وأجبرته علي تكرار الاعتذار ، وتكرار ، الاعتراف طلب العفو .. فإنك بهذا تدل بلا شك علي قساوة قلب ، وعلي كبرياء في داخلك ، وعدم مراعاه لشعور أخيك … ويكون - وليس أنت - الذي نال بركة المصالحة ، بل نال أيضاً بركة احتماله لك وصبره علي معاملتك القاسية …
* * *
كذلك بركة المصالحة ، تنال في المسارعة إليها .
إذ يقول الرسول " مسرعين إلي حفظ وحدانية الروح ، برباط الصلح الكامل " ويري أن ذلك يتم " بكل تواضع القلب و الوادعة وطول الأناة محتملين بعضكم بعضاً في المحبة "( اف 4: 2، 3) . إذن في مغفرتك لغيرك ، لا تبطئ في ذلك . ولا تترك الغضب يستمر فترة في قلبك بدون صفح . فكلما أسرعت بالمغفرة ، كلما نلت بركتها …
* * *
وفي ذلك ، احترس في معاملتك لمن هم أقل منك .
كأب يسئ إلي أبنه ، وينتظر أن يأتي الابن في إنكسار قلب يطلب العفو عنه . وأن تأخر ، يحث أخوته علي ذلك ، فيذهب ويطلب الصفح عنه . وتتم المصالحة ، والأب محتفظ بما يظنه لنفسه من كرامة !! وقد يحدث المثل فيما بين رئيس واحد مرؤوسيه : الرئيس هو الذي يسئ و المرؤوس هو الذي يسعي إلي العفو ، وتتم المصالحة بكبرياء الرئيس ، ومذلة المرؤوس . الذي ينال البركة هنا : هو الصغير وليس الكبير .
إن الإبطاء في المغفرة له أسباب :
1- إما أن الذات لها وجودها وسيطرتها ، وتطلب لنفسها بحقوق ..
2- وإما أن عامل الغضب هو الذي يحكم الإنسان ولو ضغط علي أعصابه .
3- وأما أن المحبة ليست كاملة . لن المحبة كما يقول الرسول " لا تحتد ، ولا تطلب ما لنفسه ، وتحتمل كل شئ .." ( 1كو 13) .
4- وإما أن الإنسان يحتاج إلي تواضع قلب لكي يغفر .
فليبحث كل إنسان أسباب عدم مغفرته، ويعالجها داخل نفسه ولا يعتذر بأن الإساءة كانت فوق احتماله . ذلك لأن القلب الكبير يمكنه ان يحتمل كل شئ . أن السيد المسيح يقول : إذا قدمت قربانك علي المذبح . وهناك تذكرت أن لأخيك شيئاً عليك ، أترك قربانك قدام المذبح ، واذهب أولاً اصطلح مع أخيك .." ( مت 5: 23، 24). فما معني هذا
إن تذكرت أن له شيئاً عليك ، تعني أنه يمسك عليك خطأ ضده أي أنك أنت المسئ …
في هذه الحالة ينبغي أن تذهب وتصالحه ، لأنك أنت الذي أسأت إليه . ولكن إن كان هو الذي أساء إليك ، فلا تنطبق عليك الآية ، إنما احتفظ ألا تحقد عليه في قلبك ، واغفر له …
فإن غفرت له ، ولم تصل إلي أن تحبه ، فهل في هذه الحالة لا تتقدم إلي القربان ؟ أورلاً احترس من أن تكرهه … ثم نعرض لهذه المشكلة :
* * *
هل إذا لم تصل إلي محبة الأعداء ، لا تستطيع أن تصلي ؟
يجيب القديس أوغسطينوس علي هذا السؤال ، فيقول : " لا أجرؤ أن أقول لكم أن لم تحبوا أعداءكم ، لا تصلوا . . بل صلوا بالحري لكي تحبوهم " نعم صل ، وقل له امنحني يارب محبة العداء …
اعترف لله بانك لم تصل بعد محبة أعدائك . وكلمه بصراحة . قل : أنا سمعت يارب كلمة من فلان جرحت شعوري ، ومازلت متعباً منها في الداخل ، وقد أغير قلبي من نحوه . وهذا يدل علي عدم احتمال ، وعلي غضب وعدم محبة ، وعلي أنني لم أستطع أن أحرر تلك الكلمة ببساطة وهدوء . أعطني يارب القدرة التي تجعلني أحتمل هذا الإنسان ، وأن أحبه أيضاً . أعترف لك يارب أنني لست أجد في هذا الشخص شيئاً يحب ! وربما هذا الإحساس نابع من عدم نقاوة قلبي ، فأعطني نقاوة القلب التي أحكم بها بغير قسوة . لأنه بغير نعمتك أنا عاجز عن محبته .. وإن كنت أنا غير قادر علي احتماله في عبارة واحدة قالها لي فعجيب أنت يارب كيف تحتمله طول السنين والأيام … * * *
إن كانت المغفرة صعبة علي ، فاعطني يارب أن أغفر …
أعطني نقاوة القلب ، واعطني الإحتمال ، وأعطني أن أغفر لغيري ، لكي استحق بهذا أن تغفر لي … ليس بمجهودي البشري يمكنني أن أصل إلي هذا كله . إنما أنت الذي تقودني في موكب نصرتك ( 2كو 2: 14) … فأنتصر علي نفسي ، وعلي مشاعري ضد الغير ، وانتصر علي عدم إحتمالي … وأصل إلي محبة المسيئين إلي بعمل روحك القدوس في …
ضع أمامك أمثلة عجيبة في المغفرة .
1- السيد المسيح وهو علي الصليب ، يشفع في صالبيه ويقول : " يا أبتاه اغفر لهم لا يدرون ماذا يفعلون " ( لو 23: 34) .
2- والمثل الثاني ، الذي هو إنسان عادي مثلنا ، القديس اسطفانوس أول الشمامسة ، الذي أثناء ما كان اليهود يرجمونه كان " يدعو ويقول : أيها الرب يسوع ، لا تقم لهم هذه الخطية "( أع 7: 59) . ولأن الشهيد أسطفانوس كان علي هذه الدرجة من المغفرة لراجميه ، لذلك استحق أن يبصر " السماء مفتوحة ، وأبن الإنسان قائم عن يمين الله "( أع 7:55) . وهكذا استحق هذا القديس العظيم أن يدخل إلي السماء ، وليس في قلبه شئ ضد أعدائة بل كل صفح بل وشفاعة فيهم .
3- المثل الثالث هو يوسف الصديق ، الذي أساء إليه أخوته وألقي في البئر ، ونزع عنه قميصه ، وبيع كعبد .. ومع ذلك - لما وقعوا في يديه وقد صار الثاني بعد فرعون .. غفر لهم ، وطمأنهم قائلاً " لستم أنتم أرسلتموني إلي هنا ، بل الله "( تك 45:
. وأسكنهم في أرض جاسان في أفضل أرض ، واعتني بهم وعالمهم . ولما خافوا أن يبطش بهم بعد موت أبيهم يعقوب ، طمأنهم مرة أخري وقال لهم " لا تخافوا … أنت قصدتم لي شراً ، أما الله فقصد به خيراً. فالآن لا تخافوا . أنا اعولكم وأولادكم . فعزاهم وطيب قلوبهم "( تك 50: 19- 21) . بل أنه من تأثيره بكي لما قالوا له نحن عبيدك ( تك 50 : 17) . هذا مثل من العهد القديم ، لئلا يظن أحد ان المغفرة للمسيئين هي فقط من سمو العهد الجديد . وهو مثل منفذ عملياً
إن كنت لا تغفر ، فأنت تكذب في صلاتك .
تقول للرب " كما نغفر نحن أيضاً "… بينما أنت لا تغفر وإذ تكذب في صلاتك التي تطلب بها مغفرة الخطية هي نفسها تحوي خطية !! فيجب أثناء وقوفك للصلاة ، أن تصفي قلبك أمام الله …
فأنت لست فقط تصفي قلبك لكي تتقدم للتناول من الأسرار المقدسة ، وإنما تصفي قلبك لمجرد أن تصلي .
لكي لا تكذب علي الله ، حينما تقول " كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا ." وإن لم تستطيع ذلك ، فعلي الأقل أطلب إلي الله أن يصفي قلبك أثناء الصلاه .
يقول القديس أوغسطينوس : إن السيد المسيح هو شفيع ك أمام الآب ( 1 يو 2: 1) . فإن كنت تكذب في صلاتك ، يصير هو شاهداً ضدك . وأن لم تصلح نفسك ، يكون هو القاضي عليك …
* * *
لذلك قل عبارة " " كما نغفر " . وأعمل بها .
فآنت لا تستطيع أن تجد وسيلة للأفلات بها من هذا النص … أتراك تستطيع أن تحذف هذه العبارة من صلاتك ؟! إن حذفت هذه الطلبة ، فأنك تكون في هذه الحالة لا تطلب المغفرة ، وتظل خطيتك قائمة محسوبة عليك …
* * *
يقول القديس أوغسطينوس إنه إتفاق وعهد أمام الله .
علينا شرط ، وعلي الله عهد . الشرط الذي علينا هو أن نغفر للمسيئين . والعهد الذي يقدمه الله هو أن يغفر لنا علي هذا الأساس . إنه إتفاق بيننا وبين الله . فأن أخللنا بالشرط ، ماذا يحدث ؟ يقول السيد الرب " إن لم تغفروا للناس زلاتهم ، لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم "( مت 6: 15) . أنه إتفاق مع الله . إن أخللنا به تصبح صلاتنا عديمة الجدوي
فهل بعد هذا ، سوف تصطلحون مع بعضكم البعض .
علي اعتبار أن الكتاب يقول " اغفروا ، يغفر لكم " ( لو 6: 37) . يقول البعض : أياً كان الأمر … فلان بالذات لن أصالحه ، ولن أغفر له ، ولو أتاني الملاك ميخائيل يطلب مني ذلك !! الجواب بسيط . إن لم تصالحه وتغفر له ، تكون أنت الخاسر ، لأنك أنت الذي سوف تفقد المغفرة التي تأتيك من الله إن غفرت له
اغفر إذن لغيرك . ولتكن المغفرة من كل قلبك .
لأن البعض قد يقول بفمه " لقد سامحته " بينما يحزن في قلبه الخصومة ، وكأنه لا يخشي عين الله التي تفحص القلوب . وحتى هذه الكلمة التي يقولها بالسانه ، والتي لا تنبع من قلبه ، يبدو من هذه الكلمة التي يقولها بلسانه ، والتي تنبع من قلبه ، يبدو من لهجته ونبرة صوته ، أنه غير صادق … فيها إذن اغفر ، ولو تجاهد نفسك في ذلك و تنتصر عليها . ولا تستبق في قلبك شيئاً من العداوة أو من الحقد .
* * *
يقول البعض : فأن غفرت له ، رجع مرة أخري ليسئ إلي ؟!
الجواب ، هو أن تعود مرة أخري فتغفر له … وان اخطأ إليك مرة ثالثة ، تغفر له للمرة الثالثة . وهكذا دواليك وهذا الأمر قد أوضحه السيد الرب ، حينما سأله بطرس الرسول قائلاً " كم مرة يخطئ إلي سبع مرات ؟" فأجاب الرب " لا أقول لك سبع مرات بل إلي سبعين مرة سبع مرات "( مت 18: 21، 22) . والمعروف ان رقم 7 يدل علي الكمال ، وكذلك رقم عشرة . إذن فالذي يقصده الرب ، هو ما لا نهاية له من المرات .. أي كلما أخطأ اغفر له . فلماذا ؟
ذلك لأن الله قد غفر لك أكثر بكثير مما يطالبك به من المغفرة
مهما كانت عدد الخطايا التي أخطأ بها إليك أخوك ، ومهما كانت شدتها .. فالله قد غفر لك ما هو اشد وأكثر منها . فأغفر وأجعل قلبك صافياً ، لكي تستحق أنت أيضاً مغفرة خطاياك …
* * *
انظروا ، كيف أننا نبدأ القداس الإلهي بصلاة الصلح .
أنظروا ، كيف أننا نبدأ القدس الإلهي بصلاة الصلح .
ويقول الأب الكاهن : اجعلنا مستحقين كلنا يا سيدنا ، أن نقبل بعضنا بعضاً بقبلة مقدسة ، لكي ننال بغير إنطراح في الحكم من موهبتك غير المائتة السمائية " … والقبلة هي أشارة للحب . و الشماس يصيح قائلاً " قلبوا بعضكم بعضاً بقبلة مقدسة …
وعبارة " قبلة مقدسة " تعني أنها غير مخادعة ، مثل قبلة يهوذا
قبلة حقيقة صادقة ، عن حب صاف طاهر .. وليست مثل قبلة الخائن يهوذا ، الذي كان يقبل بالفم ، بينما القلب يدبر مؤامرات !! فهل أنت في حضورك للقداس ، يكون قلبك فيه هذا الحب نحو الكل ، ونحو المسيئين إليك . أم أنك إن دخلت الكنيسة ، وكان فيها أحد المسيئين إليك ، تتعمد الجلوس في مكان بعيد جداً عنه ، حتى لا تحرج بالسلام عليه . وإن سلمت اضطراراً ، لا يكون ذلك من قلبك .
* * *
كيف إذن تصطلح مع أخيك ، وتغفر له ، وتسلم عليه من قلبك ؟ يقول مار اسحق :
اصطلح مع نفسك ، تصطلح معك السماء والأرض .
اصطلح مع نفسك ، أي أن العيب في داخلك أنت ، وليس في اخيك . في داخل نفسك أخطاء تحتاج أن تصلحها فيك ، قبل أن تصطلح مع أخيك . وبذلك يكون الصلح سهلاً . يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص : نحن سنصلي . وفي صلاتنا سوف نقترب إلي الله . فإلي أي إله سوف نقترب في صلاتنا ؟ سنقترب من الله صانع الخيرات الغفور الرحيم … فلابد أن نكون صانعي خير مثله ، غفورين مثله ، رحومين ومحتملين مثله .. في كل هذه الصفات وغيرها مما نراه في الله ، ينبغي أن نشابهه بحرية إرادتنا . أنت في صلواتك تطلب من الله أن يحبك ويغفر لك . فيقول لك مثلما تطلب مني أن أحبك وأغفر لك ، ينبغي أن تكون أنت أيضاً محباً وتغفر لغيرك ..
وإلا فأنت تطلب طلبات لا تطبقها علي نفسك .
وكما يقول القديس غريغوريوس : حينئذ ينطبق عليك المثل القائل : أيها الطبيب إشف نفسك "( لو 4: 23) .. فأنت تتقدم إلي الله ، وتطلب منه أن يكون غفوراً رحوماً . فيقول لك : هذه الطلة التي تطلبها مني ، لماذا لا تطبقها علي نفسك …
هنا ونعود لنتأمل عبارة : اصطلح مع نفسك :
أي أن نفسك فيها فكران ، كل منهما ضد الآخر يصارعه : فكر يقول : أسامحه وأنفذ الوصية ، وأصلي بقلب صاف . وفكر آخر ييقول : لا يمكن ان أسامحه ، فقد أساء إلي . ومسامته ضد كرامتي وضد حقوقي . ويجب أن ألقنه درساً . وهذان الفكران يتصارعان داخل نفسك . وأنت محتاج أن تصالح هذين الفكرين داخلك ، فتصطلح مع نفسك . إن كنت لا تسطيع أن تغفر ، فماذ تفعل ؟
اعتبر هذه الطلبة عظة لك وصل من أجل تحقيقها .
اعتبر أن صوت الله يناديك وأنت تصلي ويقول لك :" اغفر لأخيك لكي اغفر لك أنا أيضاً ". وفي صلاتك قل من ؟أعماق : أعطني يارب أن أغفر امنحني الحب الذي أنسي به أخطاء غيري " وعلي أية الحالات تكون وصية المغفرة ماثلة أمام عينيك . هنا ونسأل :
ما علاقة المغفرة بطلبة الخبز السابقة لها ؟
أن كنا نطلب الخبز السماوي ، أي سر الإفخارستيا اللازم لحياتنا الأبدية ، فإننا ما أن نطلبه ، حتي نذكر أننا محتاجون للمغفرة لكي نتناول باستحقاق لذلك نقول اغفر لنا . ثم إننا يجب أن " نقبل بعضنا بعضاً بقبلة مقدسة ، لكي ننال بغير وقوع في دينونة من هذه الموهبة السماوية ، لهذا نقول : كما نغفر نحن أيضاً . إذن يلزم لنا أن نغفر لغيرنا ، وأن يغفر الرب لنا ، لكي نستحق أن نتناول من السرائر الإلهية . وأن كنا في طلبة الخبز ، نطلب كل الأغذية الروحية اللازمة لنمونا الروحي و لحياة الأبد ، فأننا نقول للرب : هذا عن المستقبل الذي نريده معك . اما من جهة الماضي فأغفر لنا . أو نقول في اعتذار : علي الرغم من كل ما تعطينا من غذاء روحي ، مازلنا يارب نخطئ فإغفر لنا .
· هل إذا غضبت مع إنسان وجاء هو يطلب مني أن أسامحه فسامحته : هل نال بذلكبركة الصلح ؟
الذي ينال بركة المصالحة ، هو الذي يسعي إليها .
لأن سعيه إليها ، يدل علي ما في قلبه من إتضاع ، ومن حب ومن رغبة في السلام ، كما يقول الكتاب " مسرعين إلي حفظ وحدانية الروح ، برباط الصلح الكامل ". ويقول عن ذلك " بكل تواضع القلب والوداعة وطول الأناة ، محتملين بعضكم بعضاً في المحبة " ( أف 4: 3،2) .
أيضاً الذي يقبل المصالحة ، ينال بركتها ، لأنه لم يغلق قلبه دونها .
وذلك لأن هناك أشخاصاً لا يستجيبون للمصالحة ، ولا تكون قلوبهم ولا إرادتهم مستعده لذلك ويقومون أسباباً تمنعهم من ذلك …
♥ ♥ ♥
· هل لو كان هناك شخص عشرته تضرني روحياً أو اجتماعيا وقد ابتعدت عنه ، هل يجب علي إذن أن أذهب وأصالحة ؟
الجواب : كلا ، فالكتاب يمنع من صحبة الأشرار .
ويقول المزمور الأول " طوبي للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار ، وفي طريق الخطاة لم يقف ، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس "( مز 1:1) . ويقول أيضا إن المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة "( 1كو 15: 33) . بل يقول كذلك " لاتخالطوا ولا تؤاكلو مثل هذا "( 1كو 6:11) . وينطبق هذا الكلام أيضاً عن الذي يضرك عقيدياً ( 2يو 10، 11)
معاشرة هؤلاء ليست صلحاً ، أنما هي مخاصمة لله .
المفروض أن مصالحتك لأي إنسان تكون علي الصلح مع الله ومحبتك لأي إنسان تكون نابعة من محبتك لله . فالذي يفسد حياتك الروحية ، ابتعد عنه . ولا تحسب هذا خصاماً بل حرصاً . وفي نفس الوقت لا تختزن في قلبك عداوة من جهته .
* * *
· ألا يكفي أن أغفر للمسيء داخل قلبي ،دون أن أمارس معه علاقة شخصية ، ودون أن أذهب إليه ؟
الجواب : مادام هو المسيء ، فأنت غير ملزم أن تذهب إليه يكفي ظن حسب وصيه الرب " أترك قربانك قدام المذبح ، واذهب أولاً اصطلح مع أخيك "( مت 5: 23، 24) .
أما إذا كنتما في بيت واحد ، أو في عمل مشترك ، فلا تكفي مجرد المغفرة داخل القلب …
لابد إذن من العلاقة و العشرة ، وإلا تحول الأمر إلي مقاطعة أو خصومة ، علي الرغم مما تقوله عن المغفرة داخل القلب . وينطبق هذا الأمر علي فروع العائلة إذا انقطعت العلاقة بسبب الإساءة . وبالمثل بالنسبة إلي الأصدقاء الذين كانت بينهم علاقات وثيقة وزيارات متبادلة ، ثم توقف هذا كله بسبب إساءة . وهنا نضع قاعدة هامة وهي :
لا تتفق المغفرة القلبية مع المقاطعة و الخصومة .
فالخصومة تدل علي أنه لا توجد مغفرة . وبخاصة اذا كانت توجد من قبل علاقة قائمة وثيقة . فتغيير هذه العلاقة يدل علي أن القلب شئ ، وأن الحب ليس قائماً كما كان من قبل . أما عن أساءة الغريب إليك ، الذي لا تربطك به صداقة ولا عشرة ولا تزاور ، فيكفي أن تغفر له في قلبك . وإن جمعتك الصدفة معه ، تكون طبيعياً معه .
ولا تجعل المسيء يشعر بأن مقاطعتك له ، هي انتقام منك مقابل إساءته إليك أخذت شكل الخصومة .
* * *
· إذا كنت قد أسأت ، ومات دون أن اتمكن من مصالحته : فهل أنال غفراناً من الله ، إذا ما طلبت منه ذلك ؟
الجواب : طبعاً ليس بإمكانك حالياً أن تذهب إليه وتصالحه . ولكن عليك أن تندم علي ذلك في قلبك وعلي أنك لم تكن مسرعاً إلي حفظ وحدانية الروح . وسيوصل الله ندمك إليه .
ولا تشكك نفسك وتقول : فلان مات وهو غضبان علي …
فشعور الذين انتقلوا إلي عالم الأخر ، غير شعور الذين يعيشون هنا علي الأرض . فإن كان الإنسان الذي أسأت إليه شخصاً باراً ، فثق أنه قد غفر لك . أما إذا كان شريراً ـ، وقد مات دون أن تغفر لك . فلا شك أن ما يناله من عذاب فكر ونفس وهو في الجحيم ، سوف لا يعطيه فرصة للتفكير في إساءتك ، لأن عدم مغفرته لك يزيد من ألمه وعذابه . ولا ننسي قصة غني لعازر الذي كان يطلب الرحمة لاقربائه وهو معذب ( لو 16: 28) .
* * *
· يقول الكتاب " إن أخطأ إليك أخوك ، فأذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما . فإن سمح لك ربحت أخلك "( مت 18: 15) . فهل لابد أن أذهب إلي أخطأ إلي و أتعاتبه ؟ ألا يكفي أن أسامحه من قلبي ؟
الجواب : من الجائز أنك سامحته من قلبك . ولكن شعوره هو
مختلف . وربما هو غضبان عليك من شئ بسببه قد أخطأ إليك .
فالعتاب هنا يصفي القلوب ، وهكذا تكون قد " ربحت أخاك " كما قال الكتاب … كما أنك بهذا العتاب تحرص علي بقاء الود متصلاً، فلا تقطعة تلك الإساءة التي صدرت من أخيك ضدك . كما أن ذهابك إليه ، يقضي علي ما يكون في قلبك من إعتزاز بكرامتك الشخصية ، مفضلاً عليها الإتضاع
هكذا علمنا الرب أن نقول في صلاتنا كل يوم :" لا تدخلنا في تجربة ، لكن نجنا من الشرير "( مت 6: 13) . فما هي أعماق هذه الطلبة التي نطلبها من الرب يومياً ؟
حيث نقف أمام الله كخطاه نقول له أغفر لنا . وكضعفاء نقول له : نجنا من الشرير .
عن الماضي ، نقول اغفر لنا . وعن المستقبل ، نقول نجنا من الشرير … إنها طلبة إنسان متضع ، يعرف أنه معرض للتجربة ومعرض للسقوط وهو لا يعتد بقوته ، ولا يغتر واثقاً بنفسه . وإنما يصرخ إلي الله ، طالباً منه أن يحميه وينجيه …
إنه - في تواضعه - يعترف بقوة الخطية ، والتي قال عنها الكتاب إنها : " طرحت كثيرين جرحي ، وكل قتلاها اقوياء "( أم 7: 26) .
يعترف في صلاته أنه ليس فوق مستوي السقوط . فهوذا تحذير الرسول " من هو قائم ، فلنظر لئلا يسقط " لا تستكبر بل خف ( رو 11: 20) . مادام الأمر هكذا ، فنحن محتاجون يارب إلي معونتك الإلهية أست أنت القائل " بدوني لا تقدرون أن تعلموا شيئاً "( يو 15: 5) . ولهذا قال المرتل في المزمور " إن لم يحرس الرب المدينة ، فباطلاً سهر الحارس " ( مز 127:1) .. لذلك أنت الذي تنجينا لأننا لا نقدر أن ننجي أنفسنا…
أننا لسنا أعظم من القديسين الذين سقطوا …
لسنا أعظم من أبينا آدم الذي سقط ، وهو في حالة روحية فائقة للطبيعة الحالية . ولسنا أكثر روحانية من داود مسيح الرب ، رجل الصلاة و المزامير . ولا نحن أحكم من سليمان ، الذي أخذ الحكمة من الله ، وصار أحكم أهل الأرض . ولا نحن أقوي من شمشون الذي كان روح الرب يحركه ( قض 13: 25) . وكل هؤلاء سقطوا . لذلك نصرخ : نجنا من الشرير …
ونحن نعرف أيضا قوة إبليس الذي يحاربنا …
هذا الذي قال عنه القديس بطرس الرسول " أن إبليس عدوكم كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه هو "( 1 بط 5:
. ونحن نعترف إننا بقدرتنا الشخصية لا نستطيع أن نقوي